05 نوفمبر 2024
أزمة ثقة سياسية في أعالي الدولة المغربية
ضاعفت حملة المقاطعة من أزمة الثقة التي تهز الكيان السياسي في المغرب، وأعطتها بنية جديدة غير مسبوقة، بدون أن ينجح المدافعون عن الطبقة السياسية في تحديد ملامح "عدوهم" الجديد، والمسارعة إلى تمارين معروفة في مثل هذه الحالات.. كانت تقتضي البحث البوليسي عن المستفيد منها، لتحميله مسؤوليتها. ولعلها المرة الثانية التي تجد فيها الطبقة السياسية في دواليب التسيير نفسها أمام هزةٍ عميقةٍ من دون أن تجد مخاطبا مؤسساتيا ومدنيا واضح التموقع والتموضع، لكي تتحدث إليه، باعتبار أن المقاطعة خرجت من الافتراضي، وقلبت الأوضاع في الواقعي.. ففي لحظةٍ سابقةٍ، خرج آلاف من المغاربة في المناطق الشمالية، بالتحديد في الريف العصي، لكي يعلنوا رفضهم وضعا صعبا يعيشونه. كان كافيا أن يموت بائع سمك بسيط، لكي ينتفض أهل المنطقة للتنديد به، كما كان كافيا أن يموت شقيقان في مناجم مدينة جرادة، في شرق البلاد، لكي يتظاهر عشرات الآلاف من المحتجين، ويخرجوا إلى الشارع العام، في مسيرات غير مسبوقة بتاتا.
وفي الحالتين، استعصى على الحكومة وممثليها المحليين التفاعل مع وضعٍ ينذر بالتصاعد.. وكانت النهايات غير سارة، لا بالنسبة للسياسيين ولا للمحتجين، عندما تدخل القضاء لكي يجد حلا للتفسخ العام الذي تعرفه السياسة في الميدان اليومي. وهو حلٌّ لا يمكن أن يقبل به، لا رجل الدولة، ولا المحلل الموضوعي، ولا المتضرّر من الأوضاع، باعتبار أن إعطاء الصيغة القضائية لتوتر اجتماعي ليس حلا يسهل تبريره دوما. والثابت أن جوا من الشك والتشكك يطبع الوضع العام. ولعلها من المرات القليلة التي يكون فيها الصمت المشوب بالحذر، والاختفاء
العمدي، تكتيكا سياسيا "ناجحا" في مداراة هذه الوضعية. وهو مظهر متقدم عن أزمة الثقة التي تولدت من الاحتجاجات، ثم من المقاطعة.
وبطبيعة الحال، لن يكون بمقدور أي كان القدرة على السباحة في هذا المحيط الجديد، أو الأمل في الاستفادة منه، (اللهم قوى اليسار الراديكالي، أو المكونات السياسية التي تشتغل من خارج الحقل المشروع، كما جماعة العدل والإحسان، الإسلامية القوية، والتي لم تدخل الحقل السياسي بعد)، وهذا مجال نقاش آخر، يحيلنا إلى عدم استكمال الحقل السياسي المغربي، بوجود فاعلين مؤثرين وأقوياء (العدل والإحسان) خارج السياسة، على الرغم من وجودهم في كل مناطقها.
والثابت الآخر أن هناك أزمة ماثلة للعيان، ولا تخفي نفسها في أعالي الدولة المغربية. ولعل أبرز مظاهرها، إن لم نقل الناقوس الأكبر الدال عليها، كان ما قاله ملك البلاد عن أزمةٍ تضرب العمل السياسي، ووجود بعض السياسيين، حيث لم يعد ممكنا تعقب مظاهر هذه الأزمة المهيكلة للحاضر بدون العودة إلى تعبير العاهل المغربي نفسه، في إحدى أقوى خطبه بمناسبة عيد العرش، فقد قال بالواضح من الكلام، إنه لا يثق في الطريقة التي تمارس بها السياسة: "إذا أصبح ملك المغرب غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟".
وكان الملك نفسه قد تحدّث عن الاحتقان وانعدام الثقة واللامسؤولية والابتعاد عن الصالح العام والحروب الدسيسة في أركان المؤسسات التي تشكل مجتمعةً ما نسميها الدولة. ما يجعلنا ندرك أن هناك صمما مزمنا، ومع سبق الإصرار والترصد. هناك هوة سحيقة تتزايد بين الفوق والتحت، بين الأعلى والأسفل. هناك تشققاتٌ تندلع من بين ثناياها حمم بركانٍ صغيرةٍ على قدر التوجسات التي تطبع البلاد.. تخبرنا أن الطبقة السياسية لا تختلف عن طبقة الأرض التي تكون فيها الزلازل أو البراكين ثاوية، في صمت التوجسّات التي نحس بها. وهنا شرخٌ واضحٌ بين الملك والسياسيين، وبين الشعب والسياسيين.
ولعل البلاد عاشت تحت مظلة هذا التقدير الملكي القاسي طوال هذه السنة، وتكرس بالفعل وجود خصاص مريع في الثقة. ولكن الثقة لم تقف حدودها عند الملك والشعب، بل نلمسها بين مكونات الفعل السياسي نفسها. وتبين أن الحرب التي دارت بشأن الحراك في الريف أو جرادة، والتي تم نسبها إلى حركات من خارج الحقل السياسي، لم توفر لهيبها عن الحاضرين الرسميين في الحقل ذاته.
الواضح أن الأزمة تشمل مكونات حكومة المغرب نفسها، على الرغم من المدونة السلوكية التي أطلقت عليها الأغلبية اسم "ميثاق الأغلبية" بشأن التماسك والعمل المشترك. والواضح في هذا المضمار أن تفاعلات الوزراء، وتفاعلات الأحزاب المعنية مباشرة مع متغيرات الوضع، كشفت عن وجود خللٍ في علاقات هذه الأحزاب، وميلها إلى تحميل بعضها بعضا مسؤولية ما يجري لها من دون أن يصل ذلك إلى إشراك الرأي العام في نقاش الكواليس، بل الاقتصار على التلميح الذي تتولى المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي الكشف عن مضامينه!
ومن المتوقع أن يزداد انعدام الثقة بالأحزاب السياسية والمؤسسات بشكل عام، بداعي ما يتراكم من عجز في التواصل مع شرائح المجتمع الكبيرة، ما يطرح معضلة البحث عن بديل. ولعل السيناريوهات التي يتم تداولها الآن بين المغاربة، بعد أن وجدوا كلماتٍ لما بعد الصمت
والذهول: ما العمل، في المسافة بين نص الدستور وحقيقة الواقع السياسي للبلاد؟ ويبدو أن من عناصر الثقة المنعدمة أن البدائل لا تظهر الآن، ولا يمكن توقعها إذا ما استمر الاحتقان بهذا الشكل المعلن عنه: هل سيكون من المفيد تشكيل حكومة جديدة؟ أم الاكتفاء بتعديل حكومي عميق، وما الذي يضمن أن النتيجة ستكون أفضل؟ هل سيكون من المفيد إجراء انتخاباتٍ سابقة لأوانها، وما الذي يضمن ألا تعود الخريطة السياسية بتشكيلتها وتضاريسها نفسها، وربما بوزرائها أنفسهم؟
تنبئ كل هذه الأسئلة بوجود أزمة ثقة في مستقبل السياسة نفسها! إننا أمام أزمة مركبة في الثقة: أزمة ثقة الملك في طبقة سياسية معينة، أزمة ثقة الشعب في المجتمع السياسي، أزمة ثقة المجتمع السياسي في بعضه بعضا، أزمة ثقة في السياسة نفسها. وبلغة الملك محمد السادس، هناك سؤال الجدوى، والمعنى من البناء السياسي والإداري، المادي منه والمعنوي، عبر عنه هو نفسه بلغةٍ طاعنةٍ في الصراحة: "ما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة والوزراء، والولاة والعمال، والسفراء والقناصلة، إذا كانوا هم في واد، والشعب وهمومه في واد آخر". ولعلها أقوى وأعمق بؤرة للتفكير في ما يعتمل اليوم في القاعدة، كما في القمة، أمام الاحتقان العام الذي لا يبشر بخير.
وفي الحالتين، استعصى على الحكومة وممثليها المحليين التفاعل مع وضعٍ ينذر بالتصاعد.. وكانت النهايات غير سارة، لا بالنسبة للسياسيين ولا للمحتجين، عندما تدخل القضاء لكي يجد حلا للتفسخ العام الذي تعرفه السياسة في الميدان اليومي. وهو حلٌّ لا يمكن أن يقبل به، لا رجل الدولة، ولا المحلل الموضوعي، ولا المتضرّر من الأوضاع، باعتبار أن إعطاء الصيغة القضائية لتوتر اجتماعي ليس حلا يسهل تبريره دوما. والثابت أن جوا من الشك والتشكك يطبع الوضع العام. ولعلها من المرات القليلة التي يكون فيها الصمت المشوب بالحذر، والاختفاء
وبطبيعة الحال، لن يكون بمقدور أي كان القدرة على السباحة في هذا المحيط الجديد، أو الأمل في الاستفادة منه، (اللهم قوى اليسار الراديكالي، أو المكونات السياسية التي تشتغل من خارج الحقل المشروع، كما جماعة العدل والإحسان، الإسلامية القوية، والتي لم تدخل الحقل السياسي بعد)، وهذا مجال نقاش آخر، يحيلنا إلى عدم استكمال الحقل السياسي المغربي، بوجود فاعلين مؤثرين وأقوياء (العدل والإحسان) خارج السياسة، على الرغم من وجودهم في كل مناطقها.
والثابت الآخر أن هناك أزمة ماثلة للعيان، ولا تخفي نفسها في أعالي الدولة المغربية. ولعل أبرز مظاهرها، إن لم نقل الناقوس الأكبر الدال عليها، كان ما قاله ملك البلاد عن أزمةٍ تضرب العمل السياسي، ووجود بعض السياسيين، حيث لم يعد ممكنا تعقب مظاهر هذه الأزمة المهيكلة للحاضر بدون العودة إلى تعبير العاهل المغربي نفسه، في إحدى أقوى خطبه بمناسبة عيد العرش، فقد قال بالواضح من الكلام، إنه لا يثق في الطريقة التي تمارس بها السياسة: "إذا أصبح ملك المغرب غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟".
وكان الملك نفسه قد تحدّث عن الاحتقان وانعدام الثقة واللامسؤولية والابتعاد عن الصالح العام والحروب الدسيسة في أركان المؤسسات التي تشكل مجتمعةً ما نسميها الدولة. ما يجعلنا ندرك أن هناك صمما مزمنا، ومع سبق الإصرار والترصد. هناك هوة سحيقة تتزايد بين الفوق والتحت، بين الأعلى والأسفل. هناك تشققاتٌ تندلع من بين ثناياها حمم بركانٍ صغيرةٍ على قدر التوجسات التي تطبع البلاد.. تخبرنا أن الطبقة السياسية لا تختلف عن طبقة الأرض التي تكون فيها الزلازل أو البراكين ثاوية، في صمت التوجسّات التي نحس بها. وهنا شرخٌ واضحٌ بين الملك والسياسيين، وبين الشعب والسياسيين.
ولعل البلاد عاشت تحت مظلة هذا التقدير الملكي القاسي طوال هذه السنة، وتكرس بالفعل وجود خصاص مريع في الثقة. ولكن الثقة لم تقف حدودها عند الملك والشعب، بل نلمسها بين مكونات الفعل السياسي نفسها. وتبين أن الحرب التي دارت بشأن الحراك في الريف أو جرادة، والتي تم نسبها إلى حركات من خارج الحقل السياسي، لم توفر لهيبها عن الحاضرين الرسميين في الحقل ذاته.
الواضح أن الأزمة تشمل مكونات حكومة المغرب نفسها، على الرغم من المدونة السلوكية التي أطلقت عليها الأغلبية اسم "ميثاق الأغلبية" بشأن التماسك والعمل المشترك. والواضح في هذا المضمار أن تفاعلات الوزراء، وتفاعلات الأحزاب المعنية مباشرة مع متغيرات الوضع، كشفت عن وجود خللٍ في علاقات هذه الأحزاب، وميلها إلى تحميل بعضها بعضا مسؤولية ما يجري لها من دون أن يصل ذلك إلى إشراك الرأي العام في نقاش الكواليس، بل الاقتصار على التلميح الذي تتولى المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي الكشف عن مضامينه!
ومن المتوقع أن يزداد انعدام الثقة بالأحزاب السياسية والمؤسسات بشكل عام، بداعي ما يتراكم من عجز في التواصل مع شرائح المجتمع الكبيرة، ما يطرح معضلة البحث عن بديل. ولعل السيناريوهات التي يتم تداولها الآن بين المغاربة، بعد أن وجدوا كلماتٍ لما بعد الصمت
تنبئ كل هذه الأسئلة بوجود أزمة ثقة في مستقبل السياسة نفسها! إننا أمام أزمة مركبة في الثقة: أزمة ثقة الملك في طبقة سياسية معينة، أزمة ثقة الشعب في المجتمع السياسي، أزمة ثقة المجتمع السياسي في بعضه بعضا، أزمة ثقة في السياسة نفسها. وبلغة الملك محمد السادس، هناك سؤال الجدوى، والمعنى من البناء السياسي والإداري، المادي منه والمعنوي، عبر عنه هو نفسه بلغةٍ طاعنةٍ في الصراحة: "ما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة والوزراء، والولاة والعمال، والسفراء والقناصلة، إذا كانوا هم في واد، والشعب وهمومه في واد آخر". ولعلها أقوى وأعمق بؤرة للتفكير في ما يعتمل اليوم في القاعدة، كما في القمة، أمام الاحتقان العام الذي لا يبشر بخير.