تكشف هذه القصة عمق الأزمة غير المسبوقة التي تضرب المناطق الخاضعة للنظام في سورية، مع بلوغ نقص المحروقات ذروته، لتطرح تساؤلات عن أسباب هذا النقص الحاد في بعض المشتقات النفطية، خصوصاً البنزين والمازوت، وهل يحتمل السوريون تبعات ذلك، وهل سيجد النظام طريقةً لاحتواء الأزمة الحاصلة كما احتوى مثيلاتها بالسابق، أم أن السياقات مختلفة هذه المرة؟
أزمةٌ قديمة بسياقات جديدة
إذا كانت المناطق التي يديرها النظام في سورية قد شهدت فعلاً، خلال السنوات الثماني الماضية، أزمات نقص محروقات حادة، فإن الأزمة الحالية هي الأشد من نوعها على الإطلاق، لثلاثة أسبابٍ رئيسية، أولها انعكاسات العقوبات الأميركية غير المسبوقة (قطاع النفط تحديداً) على إيران، والتي كانت تساعد النظام بإمدادات النفط، وهي عقوباتٌ يبدو أنها ماضية إلى مزيدٍ من التصعيد. ثاني الأسباب هو انحسار معظم المعارك العسكرية في سورية، خصوصاً في مناطق نفطية (البادية، غرب الفرات)، وساد أملٌ لدى السكان بتحسن الأوضاع المعيشية والخدمات العامة. أما الثالث، فهو أن سياق الأزمة الراهنة مختلف عمّا سبق، مع ضغوط على النظام، بالتزامن مع دفع لتسريع خطوات بدء العملية السياسية في سورية (انطلاقاً من تشكيل اللجنة الدستورية)، من خلال اجتماعات أستانة.
أما النظام فيُرجع سبب الأزمة لـ"العقوبات الاقتصادية التي تهدف للنيل من مواقف سورية الثابتة"، ويقول إن مصر تمنع مرور حاملات النفط المتجهة إلى سورية، عبر قناة السويس، وهو ما نفته مصر. وقال مدير شركة "سادكوب" المملوكة للدولة، وهي المسؤولة عن توزيع المحروقات في سورية، مصطفى حصوية، خلال لقاءٍ مع الإخبارية السورية التابعة للنظام قبل أيام، إن إيران كانت تمدّ بلاده بحوالي مليوني برميل نفط شهرياً، وأحياناً 3 ملايين، إلا أن هذا التدفق توقف منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
ويستورد النظام نحو 90 في المائة من احتياجاته النفطية من إيران، بما يعادل مليوني برميل شهرياً، ويصل أحياناً لثلاثة ملايين برميل، فيما تؤمن وزارة النفط في حكومة النظام الـ10 في المائة الأخرى من حاجة الاستهلاك اليومي، عبر مخازن الوزارة والإنتاج المحلي، لكن هذا الرقم تراجع كثيراً بمعدلٍ وصل في أسوأ أحواله إلى نحو 1 في المائة فقط، خلال السنوات الماضية، مع فقدان النظام السيطرة على معظم المناطق النفطية، التي استعاد بعضها لاحقاً.
هذه السياقات تشي بأن أزمة نقص الوقود الحادة في دمشق، وكبرى المدن الأخرى الواقعة تحت سيطرة النظام، ليست ماضية نحو الانحسار، بل يُرجح أنها قد تشهد تفاقماً يؤرق حياة ملايين السكان الذين يعانون طويلاً للحصول على كمياتٍ قليلة من البنزين مثلاً.
ويؤكد سوريون يقيمون في دمشق، بينهم أنس. ح.، وهو موظفٌ في شركة تأمينٍ في دمشق، لـ"العربي الجديد"، أنه يضطر للانطلاق بسيارته بحدود الخامسة صباحاً "بحثاً عن أقل محطة وقود ازدحاماً". ويضيف: "أقطع أحياناً من بيتي قرب حي الميدان، مسافة 10 كيلومترات، لأصل إلى محطة وقودٍ في منطقة دمر؛ على الرغم من ذلك أضطر للوقوف بين 3 و4 ساعات، في طابور الانتظار، لأحصل على 20 ليتر بنزين فقط"، وهي الحصةُ التي خصصتها سلطات النظام للسيارات الخاصة.
وقالت وزارة النفط في حكومة النظام، منتصف هذا الشهر، إنها خَفَضتْ الكميات المخصصة، التي يتم ضبطها عبر "البطاقة الذكية" كـ"إجراءات مؤقتة للحد من ظاهرة الازدحام"، وذلك وفق الحصص التالية: "للسيارات الخاصة على اختلاف أنواعها: 20 ليتراً خلال كل 5 أيام. الدراجات النارية على اختلاف أنواعها: 3 ليترات خلال 5 أيام. السيارات العمومية: 20 ليتراً كل 48 ساعة"، طالبةً من "المواطنين التعاون لتجاوز هذه المرحلة".
عمليات تجميل
وفيما يدفع المواطن في سورية الفاتورة الأكبر جراء أزمة الوقود الحادة حالياً، فإن النظام الذي يدرك خطورة احتقان الشارع في مناطقه، لجأ إلى معالجة المعضلة بطريقتين متوازيتين. الأولى، محاولة التحايل على الاحتقان إعلامياً، من خلال تكثيف بث مشاهد عبر الإعلام الرسمي للمنتظرين في طوابير عند محطات الوقود، تظهر بشاشةَ وجوه المُنتظرين بسياراتهم، مع إخراج مشاهد على أن "المواطنين يواجهون الحصار بالكوميدية"، وذلك وفق "تعميم" لوزارة الإعلام في حكومة النظام، كشفته "العربي الجديد" أخيراً، ويقضي بـ"إعداد تقارير من مختلف المحافظات، تُصوّر السوريين على محطات البنزين وهم يضعون لافتات تتهكم على ترامب والحصار الأوروبي، وحتى الإرهاب وإسرائيل، والتأكيد في التقارير أو البرامج أو الحوارات على أن الحصار صعب، لكنه أقل كلفة من الهزيمة أو من الإرهاب".
في موازاة ذلك، فإن الطريقة الثانية هي عبر إعداد تقارير إعلامية تُبرز غضب الناس من الأزمة، وتسمح برفع سقف نبرة الغضب والتذمر من نقص الوقود. وكان لافتاً، خلال الأسابيع القليلة الماضية، تكثيف ظهور ممثلين وممثلات، لهم مواقف واضحة بتأييد النظام ورئيسه بشار الأسد، في وسائل التواصل الاجتماعي، وتمثيلهم مشاهد قصيرة، عن الأزمة وتأثيراتها على حياة الناس اليومية.
وفيما لا تقتصر الأزمة الحاصلة على نقص البنزين، بل تشمل المازوت والغاز المنزلي، إلا أن وزارة النفط التابعة للنظام حاولت تخفيف الضغط على مادة البنزين، عبر ضخ كمياتٍ متواضعةٍ منه في محطاتٍ متنقلة، تم وضع أولها في حي المزة في دمشق، وتبيع البنزين "95 أوكتان"، بسعر 600 ليرة سورية (نحو دولار و10 سنتات حالياً)، فيما يبلغ سعر ليتر البنزين المدعوم في محطات الوقود العادية، 225 ليرة سورية.
إلى أي حدٍ يصل احتمال الناس؟
انقسم السوريون خلال ثماني سنوات من الثورة إلى فئات متعددة، من مؤيدين للنظام فاعلين معه، إلى مؤيدين غير نشطين، يقابلهم مناصرون للثورة، إضافة إلى مجموعة صامتة. ولا تتوفر تقديرات بشأن نسب شريحة الصامتين المقيمين في المناطق التي يسيطر عليها النظام، وهم المحايدون فعلياً، إذ لا يُبدون تأييداً للنظام، ولا يقوون على انتقاده، كما أنهم لا يجدون بأحزاب وهيئات المعارضة بديلاً جيداً.
وإذا كان من المؤكد أن الشريحة الصلبة من المؤيدين للنظام ستقف معه حتى النهاية، فإن معظم الشرائح الأخرى، إما أنها باتت خارج سورية، أو أن معظم من تبقّى منها داخل المناطق التي يديرها النظام، هم الآن من الصامتين، الذين يدركون مخاطر التحرك أو انتقاد النظام علناً. ويبقى الخوف هو المسيطر على ملايين المتبقين داخل مناطق النظام، من غير شريحة مؤيديه الصلبة، وهو ما قد يعني أن أزمة المحروقات، وغيرها من الأزمات الخدمية الأساسية، المتعلقة بحاجات الناس اليومية، مهما بلغت حدتها، فإنها في الغالب وفق الظروف القائمة حالياً لن تؤدي إلى ولادة شريحة تتحرك ضد النظام في شوارعه.