11 نوفمبر 2024
أزمة السياسة الخارجية السعودية بعد خاشقجي
أمجد أحمد جبريل
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
تؤكّد جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، في قنصلية بلاده في إسطنبول في 2 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أزمةَ السياسة الخارجية السعودية التي لا تكاد تخرج من مأزق حتى تسقط في آخر أكبر منه، ما يطرح شكوكاً عميقة بشأن إمكانية خروج البلاد من متلازمة الأزمات الداخلية وتزايد الضغوط الخارجية، إلا في حال حدوث تغير جوهري داخلي في أسس صنع القرار السعودي، لكي يصبح أكثر مؤسسيةً وأقلّ "شخصانية".
لقد أدخلت الجريمة إلى التداول الدبلوماسي، مبدأ "محاسبة السعودية"، وربما "معاقبتها" أيضاً، إن لم يكن من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لا يزال يناور لحماية حليفه ولي عهد المملكة، محمد بن سلمان، فمن وزارة الخزانة والمشرّعين الأميركيين، وكذلك من البرلمان الأوروبي وبعض الدول الأوروبية، وأبرزها ألمانيا، وربما وصولاً إلى إجراء تحقيق دولي في القضية، في حال إصرار الرياض على حماية بن سلمان، وتجاهل المطالبات التركية.
ثمّة أسباب عديدة للأزمة الراهنة التي تحيط بالسياسة الخارجية السعودية: أولها غياب رؤية استراتيجية/ فلسفة متماسكة، واضطراب "توجّه السياسة الخارجية" إجمالاً، والذي يعاني ارتباكاً واضحاً في رؤية السعودية لحلفائها وأصدقائها وأعدائها، وضعف قدرتها على فهم متغيرات النظاميْن، الدولي والإقليمي.
ربما لم تدرك السعودية بعد أن العالم العربي يمرُّ منذ اندلاع الثورات العربية بمرحلة تحول مفصلية، تقتضي إعادة هيكلة سياستها الخارجية، وقبول فكرة التغيير، وعدم عرقلة مطالب الشعوب المهمّشة في العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية. وقد زادت معاداة الرياض الشعوب، ومحاربة الديمقراطية، وانخراطها في "الحرب الأميركية على الإرهاب"، بل توسيع نطاقها لتشمل كلّ منتقد للسياسات السعودية (وإن كان معتدلاً مثل خاشقجي)، زاد هذا كله وغيره من كلفة الدماء والضحايا والمحاصرين، نتيجة الرغبة في العودة إلى الوضع العربي السابق، بدعاوى "الاستقرار". وأنكى من ذلك، انسياق السعودية نحو ضرب العلاقات العربية - العربية في مقتل، عبر ثلاثة قرارات خاطئة استهدفت وقف مسار التغيير، (دعم انقلاب مصر في يوليو/ تموز 2013، وشنّ حرب ضد اليمن ربيع 2015، وحصار قطر منذ 5 يونيو/ حزيران 2017)، فأصبحت الرياض، بسبب غياب الرؤية الاستراتيجية، تخسر تدريجياً دعم حليفها الدولي الأهم، أي واشنطن، على الرغم من استمرار القدرة الأميركية على ابتزاز السعودية وتوظيفها في خدمة سياسات ترامب ضد إيران وقضية فلسطين. كما تخسر أيضاً صورتها لدى شعوب دول الثورات العربية، بحكم استهدافها لهم وحصارهم اقتصادياً. وتخسر ثالثاً أي علاقة إقليمية متوازنة، وتنساق نحو تطبيع مجاني متسارع مع إسرائيل، وعداء عبثي مع طهران وأنقرة، ستكون له آثاره الكارثية في المديين، المنظور والمتوسط.
وبهذا، فإن اضطراب توجّه السياسة الخارجية السعودية أفقدها أغلب مصادر الدعم الخارجي؛ فلا هي نجحت في إقناع واشنطن، والعواصم الغربية الكبيرة، بالاستمرار في دعم السياسات السعودية تحت قيادة بن سلمان، ولا هي صمدت في تنافسها الإقليمي مع المشروعيْن، الإيراني والتركي، اللذيْن تعاظما عبر توظيف أخطاء الرياض المتكرّرة، ولا هي أبقت شبكة حماية للمصالح السعودية عبر توطيد العلاقات مع الدول العربية، باستنثاء المنامة وأبوظبي والقاهرة.
السبب الثاني للأزمة، اختلال التوازن بين أدوات تنفيذ السياسة الخارجية السعودية، وتصاعد "عسكرتها"، وتكثيف استخدام الأدوات الإكراهية ضد الخصوم، من قبيل استخدام الأداة العسكرية من دون حسابات سياسية/ استراتيجية عقلانية، وفرض الحصار البحري والبرّي والجوي، وشنّ الحملات الدبلوماسية والإعلامية، لإظهار قدرة ابن سلمان و"حزمه"، خصوصاً في حرب اليمن وحصار قطر. فضلاً عن توظيف الرياض أدوات التخريب الاقتصادي، والتورّط في حروب مالية/ اقتصادية/ نفطية، ضد إيران وتركيا. وفي هذا الإطار، تمثّل جريمة اغتيال خاشقجي ذروة أزمات الرياض؛ إذ تأتي منسجمة تماماً مع مسار "عسكرة السياسة الخارجية السعودية"، وغياب الأدوات التوفيقية عنها، وهيمنة الإكراه واستهداف الخصوم عليها.
أما الأداة الدبلوماسية فهي شبه غائبة؛ إذ يحاول وزير الخارجية، عادل الجبير، عبر زياراته الخارجية وتصريحاته، أن يثبت حضور دبلوماسيته، بعد أن ضاق كثيراً هامش حركتها، ما يدل على أن وزارة الخارجية لم تعد ذات ثقل مؤثر في صناعة القرار السعودي، مقارنةً بحقبة سعود الفيصل، وهو ما أكدته جريمة اغتيال خاشقجي التي أبرزت أدوار شخصيات متنفذة في الاستخبارات العامة وفي ديوان ولي العهد.
يتعلق السبب الثالث للأزمة بانتهاء "السياسة السعودية القديمة في حقبة ما قبل الثورات العربية"، التي كانت أكثر توازناً، بالمعنى النسبي، كونها تعكس توافقات أجنحة داخل الأسرة المالكة، وإجراء مشاورات عائلية قبل اتخاذ القرار. أما في زمن ابن سلمان، فإن الملك وأبناءه
يستأثرون بأبرز مواقع صنع القرار، مع تهميش ملحوظ لباقي الأمراء، بمن فيهم أحمد بن عبد العزيز ومقرن بن عبد العزيز، و"أولاد الأمراء السديريين السبعة وأحفادهم"، كما رأى القاصي والداني في اعتقالات فندق الريتز كارلتون في الرياض في نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، التي مثّلت خروجاً عن مألوف سياسات أسرة آل سعود، عبر اعتقال الأمراء المنافسين والنافذين، وتجريدهم من بعض أموالهم وثرواتهم. ولئن كان صحيحاً أن الأسرة شهدت سابقاً إقصاء الملك سعود عام 1964، على يد ولي عهده الأمير فيصل الذي تولّى العرش قبل أن يتم اغتياله على يد ابن أخيه عام 1975، فإنها لم تكن مشتتة في قراراتها وضعيفة في تماسكها كما هي اليوم.
وبخصوص مآلات أزمة السياسة الخارجية السعودية بعد قضية خاشقجي، يمكن القول إنها تصبح أكثر ارتباطاً بما ستقرّره واشنطن وأنقرة آخر المطاف. وثمّة مساران محتملان؛ أحدهما، وهو الأرجح، أن تنجح تركيا في جرّ واشنطن إلى صفّها، ما يؤدي إلى تحسن العلاقات التركية الأميركية على حساب السعودية، وربما حلحلة بعض الملفات العالقة بينهما أو معظمها، وهذا يمكن أن يقوّي احتمالات عقد صفقة ما بين واشنطن وأنقرة والرياض تسترضي تركيا، وتبقي بن سلمان ولياً للعهد، حتى تتمكّن أسرة آل سعود من ترتيب بديل له. أما المسار الآخر، فهو فشل التفاهمات الأميركية – التركية، وتفضيل الرئيس ترامب الاستمرار في الاعتماد على حليفيه، أو تابعيْه بالأحرى، الإسرائيلي والسعودي، ما يعني إدارة الظهر نسبياً لأنقرة، وسعي ترامب إلى احتواء تداعيات اغتيال خاشقجي، واستبقاء ابن سلمان في منصبه، وحصر العقوبات الأميركية في قرارات لجان الكونغرس، وربما بعض الإجراءات، مثل منع بعض المتورّطين في جريمة الاغتيال من دخول الولايات المتحدة.
باختصار، فاقمت جريمة اغتيال خاشقجي الأزمات السعودية، فباتت الرياض أقلّ قدرةً على المناورة خليجياً وإقليمياً ودولياً.
لقد أدخلت الجريمة إلى التداول الدبلوماسي، مبدأ "محاسبة السعودية"، وربما "معاقبتها" أيضاً، إن لم يكن من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لا يزال يناور لحماية حليفه ولي عهد المملكة، محمد بن سلمان، فمن وزارة الخزانة والمشرّعين الأميركيين، وكذلك من البرلمان الأوروبي وبعض الدول الأوروبية، وأبرزها ألمانيا، وربما وصولاً إلى إجراء تحقيق دولي في القضية، في حال إصرار الرياض على حماية بن سلمان، وتجاهل المطالبات التركية.
ثمّة أسباب عديدة للأزمة الراهنة التي تحيط بالسياسة الخارجية السعودية: أولها غياب رؤية استراتيجية/ فلسفة متماسكة، واضطراب "توجّه السياسة الخارجية" إجمالاً، والذي يعاني ارتباكاً واضحاً في رؤية السعودية لحلفائها وأصدقائها وأعدائها، وضعف قدرتها على فهم متغيرات النظاميْن، الدولي والإقليمي.
ربما لم تدرك السعودية بعد أن العالم العربي يمرُّ منذ اندلاع الثورات العربية بمرحلة تحول مفصلية، تقتضي إعادة هيكلة سياستها الخارجية، وقبول فكرة التغيير، وعدم عرقلة مطالب الشعوب المهمّشة في العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية. وقد زادت معاداة الرياض الشعوب، ومحاربة الديمقراطية، وانخراطها في "الحرب الأميركية على الإرهاب"، بل توسيع نطاقها لتشمل كلّ منتقد للسياسات السعودية (وإن كان معتدلاً مثل خاشقجي)، زاد هذا كله وغيره من كلفة الدماء والضحايا والمحاصرين، نتيجة الرغبة في العودة إلى الوضع العربي السابق، بدعاوى "الاستقرار". وأنكى من ذلك، انسياق السعودية نحو ضرب العلاقات العربية - العربية في مقتل، عبر ثلاثة قرارات خاطئة استهدفت وقف مسار التغيير، (دعم انقلاب مصر في يوليو/ تموز 2013، وشنّ حرب ضد اليمن ربيع 2015، وحصار قطر منذ 5 يونيو/ حزيران 2017)، فأصبحت الرياض، بسبب غياب الرؤية الاستراتيجية، تخسر تدريجياً دعم حليفها الدولي الأهم، أي واشنطن، على الرغم من استمرار القدرة الأميركية على ابتزاز السعودية وتوظيفها في خدمة سياسات ترامب ضد إيران وقضية فلسطين. كما تخسر أيضاً صورتها لدى شعوب دول الثورات العربية، بحكم استهدافها لهم وحصارهم اقتصادياً. وتخسر ثالثاً أي علاقة إقليمية متوازنة، وتنساق نحو تطبيع مجاني متسارع مع إسرائيل، وعداء عبثي مع طهران وأنقرة، ستكون له آثاره الكارثية في المديين، المنظور والمتوسط.
وبهذا، فإن اضطراب توجّه السياسة الخارجية السعودية أفقدها أغلب مصادر الدعم الخارجي؛ فلا هي نجحت في إقناع واشنطن، والعواصم الغربية الكبيرة، بالاستمرار في دعم السياسات السعودية تحت قيادة بن سلمان، ولا هي صمدت في تنافسها الإقليمي مع المشروعيْن، الإيراني والتركي، اللذيْن تعاظما عبر توظيف أخطاء الرياض المتكرّرة، ولا هي أبقت شبكة حماية للمصالح السعودية عبر توطيد العلاقات مع الدول العربية، باستنثاء المنامة وأبوظبي والقاهرة.
السبب الثاني للأزمة، اختلال التوازن بين أدوات تنفيذ السياسة الخارجية السعودية، وتصاعد "عسكرتها"، وتكثيف استخدام الأدوات الإكراهية ضد الخصوم، من قبيل استخدام الأداة العسكرية من دون حسابات سياسية/ استراتيجية عقلانية، وفرض الحصار البحري والبرّي والجوي، وشنّ الحملات الدبلوماسية والإعلامية، لإظهار قدرة ابن سلمان و"حزمه"، خصوصاً في حرب اليمن وحصار قطر. فضلاً عن توظيف الرياض أدوات التخريب الاقتصادي، والتورّط في حروب مالية/ اقتصادية/ نفطية، ضد إيران وتركيا. وفي هذا الإطار، تمثّل جريمة اغتيال خاشقجي ذروة أزمات الرياض؛ إذ تأتي منسجمة تماماً مع مسار "عسكرة السياسة الخارجية السعودية"، وغياب الأدوات التوفيقية عنها، وهيمنة الإكراه واستهداف الخصوم عليها.
أما الأداة الدبلوماسية فهي شبه غائبة؛ إذ يحاول وزير الخارجية، عادل الجبير، عبر زياراته الخارجية وتصريحاته، أن يثبت حضور دبلوماسيته، بعد أن ضاق كثيراً هامش حركتها، ما يدل على أن وزارة الخارجية لم تعد ذات ثقل مؤثر في صناعة القرار السعودي، مقارنةً بحقبة سعود الفيصل، وهو ما أكدته جريمة اغتيال خاشقجي التي أبرزت أدوار شخصيات متنفذة في الاستخبارات العامة وفي ديوان ولي العهد.
يتعلق السبب الثالث للأزمة بانتهاء "السياسة السعودية القديمة في حقبة ما قبل الثورات العربية"، التي كانت أكثر توازناً، بالمعنى النسبي، كونها تعكس توافقات أجنحة داخل الأسرة المالكة، وإجراء مشاورات عائلية قبل اتخاذ القرار. أما في زمن ابن سلمان، فإن الملك وأبناءه
وبخصوص مآلات أزمة السياسة الخارجية السعودية بعد قضية خاشقجي، يمكن القول إنها تصبح أكثر ارتباطاً بما ستقرّره واشنطن وأنقرة آخر المطاف. وثمّة مساران محتملان؛ أحدهما، وهو الأرجح، أن تنجح تركيا في جرّ واشنطن إلى صفّها، ما يؤدي إلى تحسن العلاقات التركية الأميركية على حساب السعودية، وربما حلحلة بعض الملفات العالقة بينهما أو معظمها، وهذا يمكن أن يقوّي احتمالات عقد صفقة ما بين واشنطن وأنقرة والرياض تسترضي تركيا، وتبقي بن سلمان ولياً للعهد، حتى تتمكّن أسرة آل سعود من ترتيب بديل له. أما المسار الآخر، فهو فشل التفاهمات الأميركية – التركية، وتفضيل الرئيس ترامب الاستمرار في الاعتماد على حليفيه، أو تابعيْه بالأحرى، الإسرائيلي والسعودي، ما يعني إدارة الظهر نسبياً لأنقرة، وسعي ترامب إلى احتواء تداعيات اغتيال خاشقجي، واستبقاء ابن سلمان في منصبه، وحصر العقوبات الأميركية في قرارات لجان الكونغرس، وربما بعض الإجراءات، مثل منع بعض المتورّطين في جريمة الاغتيال من دخول الولايات المتحدة.
باختصار، فاقمت جريمة اغتيال خاشقجي الأزمات السعودية، فباتت الرياض أقلّ قدرةً على المناورة خليجياً وإقليمياً ودولياً.
أمجد أحمد جبريل
باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.
أمجد أحمد جبريل
مقالات أخرى
04 نوفمبر 2024
31 أكتوبر 2024
29 سبتمبر 2024