أزمة أخلاقية وليست اقتصادية

03 يناير 2018
+ الخط -
قبل أربع سنوات، نزل خبر سيئ على مكتب الرئيس المدير العام لشركة صناعة السيارات الفارهة "فيراري" في مدينة مارانيللو في إيطاليا: مبيعات الماركة المشهورة عالميا تنزل بطريقة كارثية في إسبانيا، خصوصا في مدينة برشلونة.
أكثر من هذا، أخبر وكيل الماركة الإيطالية في إسبانيا الشركة الأم، أن الأغنياء الذين اقتنوا آخر نسخ الفيراري الرياضية يرجعون السيارات إلى الدار، ويطلبون إعادة بيعها، للتخلص منها، ولو بثمن أقل مما دفعوه فيها قبل أشهر.
سأل المدير الإيطالي عملاء الشركة في برشلونة عن سبب هذه الكارثة، فجاءه الجواب على الفور: إنها تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تضرب إسبانيا منذ ثماني سنوات. لم يقتنع الرئيس المدير العام بهذا الجواب، لأن الأزمة الاقتصادية لم تمس زبناء الشركة، وهم في العادة الأغنياء جدا، وهؤلاء لم يفقدوا وظائفهم، ولا نزلت أجورهم، فلماذا يتوقفون عن شراء السيارات، أو يُرجعونها إلى الشركة، ويطلبون بيعها بأثمنة أقل؟ أمام هذه الحيرة، عمدت إدارة الشركة في إيطاليا إلى إرسال متخصصين في استقصاء رأي العملاء وحركة السوق. توجهوا إلى طلب مقابلات شخصية مع زبناء "الفيراري" لمعرفة سر قرارهم هذا التخلي عن شراء إحدى أشهر ماركات المحركات العالمية، فكانت النتيجة مفاجئة. جل الذين أرجعوا السيارات الفارهة إلى الشركة، في محاولة للتخلص منها، وجل الذين توقفوا عن شراء آخر نسخ سيارة الفيراري، لم يفعلوا ذلك لأسبابٍ مالية، بل لأسباب أخلاقية ونفسية وثقافية، حيث قال الزبناء لمندوبي الشركة الإيطالية: لم نعد مرتاحين للتحرّك بسيارات الفيراري التي يصل سعر الواحدة منها إلى 200 ألف يورو أو أكثر، أمام الناس في الشارع، في الوقت الذي يغرق فيه مواطنونا في الأزمة الاقتصادية، ويفقدون وظائفهم، ويكافحون من أجل العيش، ومن أجل تسديد أقساط منازلهم. نشعر ونحن داخل الفيراري، بمقاعدها الجلدية وألوانها الفاقعة، بأننا نستفز الأغلبية الساحقة من المواطنين. لذلك، تخلينا عن هذه الرفاهية مرحليا حتى تنفرج الأزمة".. لم تكن الأزمة الاقتصادية السبب، بل الأزمة الأخلاقية!
تكشف هذه الحادثة جانبا من الإحساس الإنساني عند جزء من الطبقة البرجوازية في أوروبا، والتي لم يجعلها المال تنفصل كليا عن مجتمعها، ولا عن الإحساس بمعاناة مواطنيها.
ليس الغني من يعيش في جزيرة معزولة يحيط بها بحر من الفقراء والمهمشين.. الغني الحقيقي هو الذي يعيش في وسط فيه فقراء قليلون، وفيه كثيرون من مستوري الحال، حتى وإن لم يكونوا من أصحاب الملايين. إظهار الغنى، والتفاخر بالمال، واستعراض الرفاهية أمام أنظار الفقراء، سلوكيات غير أخلاقية، وهي تنمّي الكراهية والحقد الطبقي، أكثر من أي شيء آخر، خصوصا عندما يكون مصدر المال هو الريع، واستغلال النفوذ، ومد اليد إلى المال العام، أو يكون مصدر الثروة هو الفساد أو التجارة في الممنوعات، عندها تصبح الثروة "دلائل مادية على ارتكاب الجرم". هذا لا يعني أن يُحرم الأغنياء من حقهم في التمتع بثرواتهم. ليس هذا هو المقصود، لكن عندما يشتري أمير يختاً بخمسمائة مليون دولار، ولوحة فنية بـ450 مليون دولار، في زمن التقشف والحديث عن نزول أسعار النفط، فهذا ليس له إلا اسم واحد: فقر الإحساس بمشاعر الآخرين.
للرأسمال، صغيرا كان أم كبيرا، مسؤولية اجتماعية، ودور سياسي، ووظيفة أخلاقية. لذلك، تبرّع بيل غيتس بالجزء الأكبر من ثروته للعمل الخيري، ومثله فعل وارين بوفيت، وزوكلبيرغ وآخرون في عواصم العالم الرأسمالي. في بلادنا الرأسمال يخاف السياسة، ويتهرّب من دوره في الدفاع عن "الليبرالية"، ويتخلى عن وظيفته الاجتماعية، ويفضل العمل والربح تحت جناح السلطة، وفي حجر ولي الأمر، فأصبح المال أرقاما بلا قيمة، ومليارات بلا وظيفة.
دلالات
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.