كشفت وثيقة رسمية، عن توقف بنوك أوروبية عن تمويل قطاع الفوسفات في تونس بعد تراكم ديون القطاع الحيوي من حيث الموارد المالية للدولة، وعدم قدرته على استعادة معدلات الإنتاج التي هوت بأكثر من النصف منذ عام 2011.
وأفادت الوثيقة الصادرة عن المجمع الكيميائي التونسي، والتي حصلت "العربي الجديد" على نسخة منها، بأن البنك الأوروبي جمد صرف أقساط قرض بقيمة 84 مليون يورو، مطالبا في الوقت نفسه باسترجاع المبالغ التي موّل بموجبها إنجاز مصنع في منطقة المظيلة في محافظة قفصة جنوبي البلاد ومشاريع للتأهيل البيئي بقيمة 214 مليون يورو.
وتطرقت الوثيقة إلى تطور أزمة قطاع الفوسفات والمجمع الكيميائي (يتولى تكرير الفوسفات واستخراج المواد الكيميائية)، مشيرة إلى أن التراجع الحاد في إنتاج الفوسفات لم يكن العلة الوحيدة التي أنهكت شركة فوسفات قفصة، التي كانت تملأ خزينة الدولة بمليارات الدولارات قبل أن تصبح شركة عاجزة، فالحوكمة السيئة أيضاً تعد أحد الأمراض التي أصابت قطاع الفوسفات.
كما أن ثمة شبهات فساد تتعلق بنقل الفوسفات والانتدابات (التعيينات) العشوائية، وشراء بعض قطع الغيار غير الصالحة. وتبرز الوثيقة أن تراجع إنتاج الفوسفات من 8 ملايين طن عام 2010 إلى 4 ملايين طن نهاية العام الماضي، انعكس سلباً على العائدات المالية السنوية للمجمع، ليتآكل رصيد خزينته تماما، بينما كان قد سجل 900 مليون دينار في 2011، كما بلغت خسائره التراكمية خلال السنوات التسع الأخيرة نحو 610 ملايين دينار، ما يعادل 128 بالمائة من رأس ماله.
ولا تقتصر الضغوط على عمليات التكرير، وإنما استخراج الفوسفات الخام. وأكد علي الهوشاتي، المسؤول الإعلامي في شركة فوسفات قفصة الحكومية، لـ"العربي الجديد" وجود صعوبات في توفير السيولة الكافية لتجديد قطع غيار تحتاجها المغاسل في مواقع الاستخراج، ما يؤثر على مستويات الإنتاج التي لم تتجاوز 2.3 مليون طن منذ بداية العام وحتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مقابل توقعات سابقة باستخراج 4 ملايين طن خلال هذه الفترة.
ودفع التراجع في الإنتاج، وزير الطاقة سليم الفرياني، إلى القول مؤخرا إن تونس لم تعد على خريطة كبار المنتجين العالميين للفوسفات، بعدما كانت ضمن الخمسة الأوائل في العالم. وتضم قائمة الدول الخمس الأعلى إنتاجاً الصين والولايات المتحدة والمغرب وروسيا والأردن.
وكان الفوسفات يمثل نحو 10 بالمائة من صادرات تونس قبل 2011، حين حلّ زيت الزيتون محله، متصدراً قائمة الصادرات وفي 2018، انكمشت حصة الفوسفات من الصادرات لتصل إلى نحو 4 بالمائة.
وكشف تقرير صادر عن شركة قفصة، اطلعت عليها "العربي الجديد" أن الشركة سجلت فارقاً سلبياً بـ34.2 في المائة بين الإنتاج المتوقع والمنجز، خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري، رغم زيادة الإنتاج بنحو 300 ألف طن، مقارنة بالإنتاج المسجل خلال الفترة ذاتها من العام الماضي، غير أن هذا النمو لم يسعف الشركة التي تواجه صعوبات متنوعة.
وأرجع التقرير أسباب تعثر الشركة في تحقيق أهدافها إلى صعوبات عدة، من بينها عدم قدرتها على تجديد آلات الإنتاج وتوفير قطع الغيار اللازمة للمغاسل، فضلاً عن تواصل الاعتصامات والاحتجاجات الاجتماعية التي تعطّل سير العمل.
وأشار إلى أن الشركة تمر بأزمة ثقة في علاقتها مع البنوك التي لم تعد تقبل بمنحها قروضاً إضافية أو تمويل مقتنياتها لقطع الغيار، فضلاً عن وجود صعوبات في صرف مرتبات العمال البالغ عددهم نحو 11 ألفاً.
ويلقى تراكم الديون في مؤسسات الفوسفات بظلاله على الاقتصاد التونسي ونسب النمو بسبب اضطرار الدولة إلى تقديم ضمانات لدى مؤسسات التمويل لتحصيل قروض بالعملة الصعبة لإسناد شركة فوسفات قفصة والمجمع الكيميائي، في وقت تتراكم فيه خسائر هذه الشركات من عام إلى آخر.
وكان شكري حسين، المسؤول في ديوان رئيس الحكومة، إن نتائج المنشآت العمومية في تونس تدهورت كثيراً بعد 2011، بينما كانت مصدر تمويل لميزانية الدولة.
وقال بلحسن الزمني، الخبير الاقتصادي لـ"العربي الجديد" إن "تخلي مؤسسات التمويل عن إسعاف قطاع الفوسفات مالياً، أمر متوقع لحرص البنوك على ضمان أموالها، بينما يتعرض القطاع لضغوط حقيقية"، معربا عن قلقه من وجود إهمال متعمد للقطاع ما يزيد من احتمالات خصخصته. وأضاف أن شركات هندية وصينية وأوروبية تراقب وضع شركة فوسفات قفصة.
وانتقد الزمني، غياب الحلول للمؤسسات الحكومية المنهكة وخاصة العاملة في مجال الفوسفات، لافتا إلى أن إغراقها بالتوظيف العشوائي وتوقف الاستثمار في المعامل وإحالة نشاط النقل الحديدي الذي كانت تؤمنه شركة النقل الحكومية إلى القطاع الخاص يكشف جزء من سوء حوكمة القطاع الذي قد ينتهي بإفلاس الشركة.
بدوره، قال شكري بن عيسى، الخبير المالي إن تراجع قيمة الدينار في السنوات الأخيرة، أثقل ديون المؤسسات الاقتصادية التي تلجأ للبنوك الأجنبية بحثا عن التمويل، ما يزج بها في دائرة الاستدانة المتواصلة، بعد عجزها على تحسين قدراتها الإنتاجية والخروج من دائرة الضغط الاجتماعي وسياسية التوظيف المكثف التي زادت في تأزيم وضعها المالي.