عبر تاريخ النظم السياسية ارتبط الاستقرار السياسي بالتوزيع العادل للثروة، إذ كلما كانت ثمار النجاح الاقتصادي لأمة ما، مبسوطة على أكبر عدد من مواطنيها نعمت هذه الأمة بالرخاء والاستقرار، والعكس صحيح.
فأزمة الحكم التي تواجه الديمقراطيات الغربية في العقد الحالي وتداعياتها السالبة أفضت إلى الغبن الطبقي وصعود التيارات الشعوبية وإلى رفض الشعوب للأحزاب التقليدية ومؤسسات الحكم القائمة.
وكما يرى وزير الخزانة الأميركي الأسبق لورنس سمرز في نقاشات منتدى دافوس التي جرت حول هذا الموضوع، أن التحديات التي تواجهها الديمقراطيات الغربية، تحديات اقتصادية وليست سياسية أو عسكرية أو فلسفية، ولكنها تحولت عملياً إلى أزمة سياسية.
من جانبها ترى مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد أن الطبقة الوسطى تواصل التقلص في المجتمعات الغربية، حيث تناقصت في أميركا من نسبة 60% خلال العقد الماضي إلى 50% حالياً، والحال لا يختلف في الدول الأوروبية.
وذكرت لاغارد في نقاشات دافوس، أن الطبقة الوسطى في الديمقراطيات الغربية تعاني من أزمة ثقة في المستقبل الوظيفي والأمان المادي. واتفق وزير المالية الإيطالي بيير كارلو بادوان مع لاغارد، في أن هناك أزمة ثقة وعدم إحساس بالأمان بين أفراد الطبقة الوسطى في أوروبا.
وحسب العديد من خبراء المال والاقتصاد، في أوروبا الذين اطلعت" العربي الجديد" على آرائهم، تتمثل أزمة الديمقراطيات الغربية في فشل النخب الحاكمة في تلبية تطلعات الجماهير في تحسين مستويات الدخل وتوفير الوظائف للمواطنين.
ويحدث هذا الفشل في تحقيق هذه المعادلة الحسابية البسيطة، وسط اتساع الفجوة في الدخل بين الأثرياء والطبقات الأخرى. وبالتالي تتحول أزمة الاقتصاد إلى أزمة سياسة.
في بريطانيا مثلاً ترتفع كلفة المعيشة وإيجارات المساكن والخدمات وتظل المرتبات ثابتة بالنسبة لأفراد الطبقة الوسطى وشرائح العمال، كذلك تنخفض مستويات الدعم المالي التي تقدمها الدولة ضمن نظام "دولة الرفاه" للطبقات الفقيرة، ويقابل هذا الإفقار المتواصل للطبقات الوسطى والعمالية والفقيرة تزايد ثروات الأغنياء.
هذا التفاوت الصارخ في مستويات الدخل في بريطانيا كان أحد أهم الأسباب في تصويت البريطانيين للخروج من كتلة الاتحاد الأوروبي في استفتاء "بريكست".
والحال لا يختلف كثيراً في العديد من الدول الأوروبية، والتي ترتفع نسبة البطالة وسط الشباب وخريجي الجامعات في بعضها فوق 20% مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا.
وفي أميركا كان التفاوت الطبقي واتساع الفجوة بين من يملك ومن لا يملك السبب المباشر في صعود دونالد ترامب للحكم.
طرح في أحد نقاشات المنتدى العالمي بدافوس أمس، موضوع تعرية وإفقار الطبقة الوسطى وشرائح العمال، والتي أدت إلى صعود التيارات الشعبوية في الدول الغربية، إلا أنه كان هناك الكثير من التحليل حول الأسباب التي أدت إلى تناقص الطبقة الوسطى وتحولها المفاجئ من دعم سياسات العولمة والانفتاح الاقتصادي والتجاري إلى دعم قادة هواة يتبنون الانغلاق والخطاب القومي المتطرف، دون طرح حلول عملية للمشاكل الاقتصادية الحقيقية، ألا وهي أزمة ارتفاع البطالة وسط العمال وتدني دخول الطبقة الوسطى في كل من أميركا ودول الكتلة الأوروبية.
ويتفق العديد من الذين اشتركوا في "نقاش دافوس" الخاص بأزمة الطبقة الوسطى على أن النخب الحاكمة تجاهلت مطالب الطبقة الوسطى والطبقة العمالية، وكان لهذا التجاهل تداعيات سياسية سالبة خطيرة. كما يشير اقتصاديون إلىى أن السياسات النقدية والمالية التي نفذتها الحكومات الغربية خلال العشر سنوات الماضية، كانت سياسات منحازة تجاه النخب والأثرياء وتجاهلت إلى حد بعيد مصالح الطبقة الوسطى. من بين هذه السياسات، سياسة" التيسير الكمي، وسياسة الفائدة والضرائب.
وتعد الطبقة الوسطى من أهم الطبقات الداعمة للاستقرار السياسي والاقتصادي في الدول الغربية، لأنها من حيث الوعي السياسي تشترك بفعالية في الانتخابات واختيار الحكومات، مقارنة بالطبقات المرفهة أو ما يطلق عليه المجتمع المخملي.
كما أن عبء تمويل الميزانيات في الديمقراطية الغربية يقع على عاتق الطبقة الوسطى، والتي تقتطع الحكومات الغربية نسبة كبيرة من مرتباتها لتمويل الخدمات والإنفاق الحكومي، وذلك مقارنة بالطبقة الثرية التي عادة ما تتهرب من دفع الضرائب عبر الثغرات القانونية أو تهريب أموالها إلى مصارف "الأوفشور" تحت أسماء مستعارة.
وتواجه الاقتصاديات الغربية، في العقد الجاري أربعة تحديات رئيسية منذ الأزمة المالية العالمية في 2008. وهذه التحديات لا تجد استجابة عملية من قبل الحكومات والنخب الغربية وتتمثل في :
أولاً: ركود دخل الطبقة الوسطى والطبقات العمالية في وقت تتجه فيه هذه الاقتصادات نحو التضخم الذي يعني عملياً زيادة أسعار السلع والخدمات. وبلغة الأرقام، فإن دخول الطبقة الوسطى من حيث قيمتها الشرائية تتناقص عاماً بعد عام، فيما ترتفع كلف المعيشة ويبقى المرتب من حيث قيمته الإسمية ثابت.
ثانياً: تزايد فوارق الدخل بين الأثرياء والطبقات الوسطى في الديمقراطيات الغربية، مثلاً يملك 20% فقط في أميركا ثروة تعادل باقي ثروة المجتمع الأميركي. وهذا يخلق نوعاً من الغبن الطبقى ورفضاً لمؤسسات الحكم.ويلاحظ أن ترامب وظف هذا الغبن في حملته بذكاء قاده للفوز على هيلاري كلينتون.
ثالثاً: هنالك مشكلة تباطؤ النمو الاقتصادي، في أوروبا، حيث لم تتمكن الاقتصادات الأوروبية منذ أزمة المال وما تلاها من أزمة اليورو من تحقيق معدلات نمو فوق 1%، كما يلاحظ أن المرتبات جمدت خلال السنوات الماضية. وأدى تباطؤ النمو إلى نقص الوظائف المتاحة أمام الشعوب الأوروبية وإلى تدني إجور الوظائف المعروضة.
رابعاً: أدت السياسات المالية والنقدية التي نفذت في أوروبا وأميركا في أعقاب أزمة المال العالمية إلى ضخ مليارات الدولارات وبنسب فائدة صفرية، أي أعطيت مجاناً للطبقات الثرية التي تملك المصارف والشركات ما أدى إلى زيادة ثروتها وتناقص ثروة الطبقات المتوسطة.
وكانت الحكومات تبرر ذلك، بقولها أن هذه الشركات والمصارف هي التي تقرض الأعمال التجارية وتوفر فرص العمل للمواطنيين. ولكن ما حدث ويحدث كان عكس ذلك تماماً.
وفي هذا الصدد، يرى البروفسور تشارلز إليوت الأستاذ بجامعة هارفارد أن إحداث تقدم في تحسين دخول الطبقة الوسطى ممكن ولكن يحتاج إلى التفات النخب الغربية بجدية لمعالجة هذه الأزمة وأن هذا لم يحدث حتى الآن.