أريدُ أنْ أموتَ مثلهم

23 ابريل 2015
+ الخط -

لم يكنْ ذلك الموت غريباً.. نعم لم يكنْ غريباً، المئاتُ من الأرواح الهاربة من أُتُونُ الحرب السوريّة، قَرَّرَت أنْ تحصلَ على فرصةٍ جديدةٍ للحياة وعن أوراقٍ زرقاء أو حمراء أو صفراء، أُفضلها خضراء تضامناً مع حزب الخضر الذي يحترم حقوق اللاجئين، لا فرق، المهم أن يُكتب فيها: استطاع هذا البَشَرِيُّ خوض البحار السبع ونجا من "ميدوسا" لينال شَرَف الحصول على وثائق مملكة الخلود الأرضيّة. لكنّ أحلامهم ذهبتْ مع القارب... وليس مع الريح كما يقولُ المثل الرائج.

يقولُ ذَلِكَ الأزرقُ اللعين مُخاطِباً تلكَ المروحيّة القديمة التي تقوم بمهمتها الاعتيادية، إلقاء التحية السماوية اليوميّة على السوريين، تُذكّرني هذه الجملة بالشعار الصباحي البعثي الذي كنّا نكرره كلَّ صباحٍ أيام الطفولة، يقول لها ذلك الأزرق: ليّ حصة، أيضاً، من دمهم، أريدُ أنْ أقاسمكم أَشْلاَءهم، للبحرِ حصة مُصانة ومكفولة من أرواح أهل هذه الأرض، فمن العدل تقسيمُ التركات بين أسباب الموت المُتَعَدِّدة، الرصاصة والبراميل والبحر... إلخ إلخ.

في حوارنا الصباحي، أنا والموت، بعد أن يطلُبَ قهوة سوريّة سادة، هكذا يُفضلها هو، حاولتُ إقْنَاعَهُ أن يشربَ النسكافيه أو نوعاً آخر من أنواع القهوة، لكنّهُ يصرُّ عليها ويهمسُ في أذني: أنتُم السوريّون بارعون في طقوس الموت، وهذه القهوة التي تَحَمصونها على مَهْلٍ تُغريني وتجدَّد فيَّ الطاقة لاقتناصِ أرواحٍ جديدة!

أحاولُ أنْ أسخرَ منهُ، أُعَري عجزهُ ونمطيتهُ المكرورة، أسألهُ أليس من الأفضل لك أن تبتكرَ أساليب جديدة في إنهاء حيواتنا؟ لأننا سئمنا من طرائقك القديمة، تخيَّل عرفنا كلَّ شيء عنكَ، ما هي ماركات اللباس المفضلّة لديك، عطركَ الصباحي الذي تضعهُ وأنتَ ذاهب في مهمةٍ جديدة، بل حتّى عرفتُ صنف النساء اللواتي تفضلُ مُواعدتهنَّ في أيام الآحاد؛ بعد أن تشرب نخبكَ الأسبوعي في تلك الحانة المهجورة التي تجاورُ البحر، الذي ترمقهُ بعينيك الحادتين وتلوحُ لهُ بقبعتكَ من بعيد وأنت تسخرُ منه ومن هوسه في مجاراتكَ.

في ذلك المساء وأنا أقرأُ خبراً بات اعتيادياً جداً، غرق المئات في سواحل المتوسط، بين ليبيا وإيطاليا بينهم العديد من السوريين، أكادُ أفقد صوابي ويمتعق لوني، أسرعُ، إلى هاتفي المحمول لأتصلَ بذلك اللعين الذي اسمهُ "الموت"، لكنّ رقمهُ خارج التغطية، نصحته مراراً وتكراراً أن يشتركَ في خدمة الثريا للاتصالات الفضائية، لكنّه يتملصُ كعادته ويشتكي من غلاء الفواتير وارتفاع تكاليفها بالرغم من العوائد الخيالية التي يجنيها ذلك الجشع، أرسلُ إليه رسالة صوتية مجانية عبر تقنية "واتساب" قَدْ تستغربون من هذا، لكنّهُ مثلكم يستخدمُ وسائل التواصل الاجتماعي جميعها، في تلك الرسالة أصرخُ فيه، ألمْ نتفق أن أكون معهم، أي الغرقى! يردُّ برسالة هو الآخر قائلاً فيها: ألمْ تعِب عليَّ طرائقي الكلاسيكية في إنهاء حياتكم، لقد خبَّأَتُ لكَ طريقة مبتكرة أيُّها التعس، أسجّلُ رسالةً أخرى بعد أن أقرر حذف رقمه من هاتفي ومن كلِّ سجلاتي قائلاً فيها:

أيُّها الموت جرَّبناكَ جرَّبناكَ...

أيّها الموت هزمناكَ هزمناكَ..

المساهمون