أرقام الحظ

26 مايو 2020
من يسبق من؟ (ريك مادونيك/ Getty)
+ الخط -
صغاراً كنّا نختصر المستقبل بمهن محدّدة. نختار مجالات عدّة كانت وربّما ما زالت تؤمّن المكانة الاجتماعية التي يفترض أنّنا حلمنا بها في ماضينا، كما حلم بها أهلنا. المستقبل موضوع في إطار متسلسل... تخرّج وعمل وبيت وزواج وأطفال... ويُفترض أن تسير الحياة بذلك التسلسل اللطيف السلس. غرّتنا الرغبة في استكشاف الحياة. نمضي قدماً نحو تلك الأحلام التي صُمّمت كقالب جاهز يسع جميع البشر، من دون استثناء. ويبقى أن هناك بعض المنتفضين على القوالب الجاهزة. لكنّ أولئك الذين هم من مؤيدي القوالب سيكونون على قناعة بأنها أكثر أمناً وأكثر سعادة.

والغريب أنّ الوصول إلى أي مرحلة لا يُحقّق هذا الرابط مع المستقبل، بل ويبقى المستقبل بعيداً أو هاجساً أو مصدراً للخوف. نكبر لنكتشف أن المستقبل ليس بريئاً تماماً، بل إنّه صياد، يختار لكلّ من آمن به يومياً مقلباً ما، وكأنه يريد كسر ثقة بنيت في الصغر. ثمّ يصبح ذلك المستقبل وحشاً نسعى إلى الاختباء منه. وبينما تشعر أن الوقت بدأ يقترب من سرعة الضوء، وأننا نكبر من دون أن نكون قادرين على تتبّع بعض التفاصيل، يرهبنا ذلك المستقبل الذي عقدنا معه صفقةً جميلة في طفولتنا كان يفترض بها ألا تضرّه ولا تضرّنا. صفقةٌ كانت مجرّد حاجة لنا لتأطير حياتنا، كما نعيش في بيت بمساحةٍ محدّدة، وبلد رسمت له حدود. كان بديهياً بالنسبة إلينا أنّنا لا نريد خوض غمار البحر، ولنترك هذا للمغامرين. كنّا نبحث عن حياة مستورة بسيطة، على أن نحظى بلحظات سعادة أكثر، وببال أهنأ. وهذا هراء أو محاولة لإرجاء الصدمة.

بتنا نكبر من دون أن نكون قادرين على النظر إلى ملامحنا وتحديد الفروقات بين يوم وآخر. كل شيء يتغيّر بسرعة كبيرة... كبيرة جداً... نحن أيضاً نتغير ويتغير ما حولنا. أخبرنا أهلنا عن بعض التجاعيد والأمراض التي ستصيبنا وعن أشخاص سنتمنى لو أنهم لم يكونوا يوماً في حياتنا وصمتوا... تركونا نكتشف معنى المستقبل بأنفسنا. والحال أننا لا نكتشف، بل نختبر على الفور. لا نحظى بالوقت الكافي لاستيعاب ما يحصل. يضعنا المستقبل في مأزق تلو الآخر. وبينما نظن أننا نجونا، وسنحظى بالقليل من الراحة، نعود إلى نقطة الصفر.



وبحسابات قليلة، نكتشف أن الأصفار في حياتنا كثيرة. وقد لا ننجح في تجاوزها كثيراً. أصفار تتراكم بعضها فوق بعضها الآخر، من دون أن تؤدي إلى أرقام جديدة. ونكتشف مع الوقت أن أرقام الحظ هي تلك التي لا أصفار فيها...

المستقبل حكاية منفصلة عن الواقع، ومنفصلة عنا، لكنّها تلاحقنا. ولن نستطيع أن نركض بسرعة أكبر.
المساهمون