روسيا بلد شبه خال من السكان، فاكتظاظ مدن وسط روسيا الكبرى لا يعبّر عن حال بلاد العم إيفان، كما أن الخلل الكبير في التوزع السكاني، بين كثافة هائلة في موسكو ومناطق مقفرة في الشمال والشرق الأقصى، يدل على خلل مماثل في سياسات التنمية وعدم اتزان فاضح فيها.
دولة عظمى بعدد قليل من السكان، معادلة مختلة بحد ذاتها، ويصعب أن تبنى عليها طموحات امبراطورية، بل إن حماية أراضٍ شاسعة، حال الأراضي الروسية، مهمة صعبة بحد ذاتها، في حال تعرضت روسيا لعدوان خارجي، فكيف لروسيا أن تفكر بغزو بلاد الغير، وبعض مقاطعاتها تكاد تحتله العمالة الصينية بلا قتال، كما تحتل غيره عمالة آسيا الوسطى. فالروس يتعالون على الأشغال السوداء، لكن حاجة الجيش إلى دم يحمي حدود البلاد وحدود السياسات، لا يفيد معه التعالي.
وتعد روسيا أكبر بلدان العالم مساحة، فمساحتها الإجمالية تزيد عن 17 مليون كيلومتر مربع، ويعيش فيها 143.7 مليون إنسان، وهي من حيث الكثافة السكانية تشغل المرتبة 180 من بين 193 دولة في العالم، علماً بأن مناطق روسيا الشمالية، سيبيريا والشرق الأقصى التي تزيد مساحتها عن 60 في المئة من مساحة البلاد، تقل الكثافة السكانية فيها عن 3 أفراد في الكيلومتر المربع الواحد. فما الذي يمكن أن تفعله موسكو، والحال كذلك، لنشر مواطنيها على أراضيها؟ هل يكفي أن تبني قاعدة عسكرية في القطب الشمالي أو تزيد عدد الصواريخ النووية المتوسطة المدى؟
يخجل الروس اليوم من أن بلادهم تستورد المواد الغذائية فيما أراضيهم مهجورة، ولكن، من سيعمل على هذه الأراضي ويعمرها إن لم تكن أجيال جديدة من الروس، ويتغاضون هنا عمن يكون المقصود بالروس سلافيين أم مسلمين أم سواهم؟
تعي روسيا البوتينية خطورة الخلل الديمغرافي، وتحاول انتهاج سياسات مشجعة لتحفيز النمو السكاني، وبعضها، وخصوصاً في الأرياف، بدأ يثمر، خلاف العاصمة التي تحكم الولادات فيها مشكلة السكن المستعصية، فلم تعد شقق الجدات تكفي الأحفاد.
ومن أكثر الخطوات نجاعة والأهم تأثيراً، ما يسمى برأس مال الأمومة، الذي تُخص به الأمهات على إنجابهن الطفل الثاني ومَن بعده، فمنذ اعتماد هذا النظام في الأول من يناير/كانون الثاني 2007، استفادت منه أكثر من 5 ملايين امرأة روسية، علماً بأن المنحة التي تمنح على الطفل الثاني وكل مولود بعده تعادل بأرقام اليوم حوالي 12 ألف دولار، قابلة للتعديل دورياً، وفق معدلات التضخم.
وفي السياق، أقرت الحكومة الروسية في التاسع والعشرين من أغسطس/آب الماضي، مبادئ السياسة السكانية حتى العام 2025، ونشرتها على موقعها الرسمي.
ويقوم مفهوم الحكومة على دعم الأسرة والدفاع عنها وعن قيم الحياة العائلية، وهنا يلاحظ الإصرار الرسمي على الوقوف ضد قيم الغرب ومنها المثلية الجنسية، على الرغم من ضغوطات سياسية تمارس على موسكو باعتبار ذلك انتهاكاً لحقوق الإنسان، كما يتم التركيز على قيم الحياة الأسرية والطبيعة الشرقية لمفهوم العائلة الروسية وعلاقاتها الداخلية، وتدعم الكنيسة الروسية ذلك بما أنها وريثة كنيسة بيزنطيا الشرقية.
وهنا يجري التركيز على دعم الأسرة بوصفها الوحدة الأساس في تكوين المجتمع الروسي المعاصر، في تضاد جوهري مع السياسة السوفييتية التي استمرت بتفتيت الأسرة الروسية على مدى سبعة عقود، وكانت تعتمد على تذرير المجتمع وتحويله إلى أفراد منفصلين، جميعهم مرتبطون بمؤسسات الدولة وخصوصاً الأمنية منها.
تراجع الموت وتقدمت الحياة
بعد ما يربو على عقدين من الضعف في كل المجالات ومن تراجع أعداد السكان، سجّل العام الماضي، 2013 أول تزايد سكاني بعد عشرين سنة من اختلال الميزان الديموغرافي الروسي باتجاه الموت.
فمعدل الولادات فاق في روسيا معدل الوفيات للمرة الأولى منذ تسعينيات القرن الماضي، وبلغت 1.7 لكل ألف روسي، وفقاً لموقع (جي ك اس.أر يو).
ويرجع الباحثون الاجتماعيون الروس هذه المؤشرات الإيجابية إلى تحسن عام في وضع البلاد الاقتصادي قياساً بأعوام البيرسترويكا وحقبة التسعينيات، وبلوغ نساء جيل الثمانينيات عمر الإنجاب وعددهن غير قليل.
فقد كان الاتحاد السوفييتي لا يزال قائماً مع ضمان العمل والمسكن، وإلى المنحة التي تتلقاها الأمهات غير العاملات من صندوق دعم الأسرة، وكذلك مضاعفة التعويضات الشهرية التي تمنح للنساء العاملات المنجبات، ومنحهن وضعاً قانونياً خاصاً وميزات ضريبية.
الروس لا يريدون الإنجاب من أجل الحرب
"أيريد الروس الحرب؟" قصيدة مغنّاة كتب كلماتها الشاعر، يفغيني يفتوشينكو، يحبها الروس ويرددونها كثيراً، حين تلوح في الأفق مخاطر حروب، فما زالت ترى في شوارع المدن الروسية مقعدي الحرب الشيشانية وجدودهم مقعدي الحرب الأفغانية، وما زال أبناء الناجين من أهوال الحرب العالمية الثانية وأحفادهم يبكون.
لذلك يصعب أن ترى روسيّاً ممن يعون فداحة الأثمان يريد الحرب، أو ترى امرأة مستعدة للانجاب لسد ثغرة في جبهات القتال، ويرد الروس، على يفتوشينكو بـ"لا، لا نريد الحرب".
وأما علماء السكان والمؤرخون فيشيرون إلى أرقام مروعة من البشر فقدتهم روسيا في حروب القرن العشرين وفي حملات الاعتقال والإعدام والأشغال الشاقة الستالينية.
ووفقاً لرأي الباحث السكاني، أناتولي فيشنيفسكي، تصل أعداد البشر الذين فقدتهم روسيا، في القرن العشرين، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، في الحروب والمجاعات والاعتقالات والتهجير والأزمات الاقتصادية الكبرى، إلى حوالي 140-150 مليون إنسان.