أربع سنوات من الثورة.. ولم يسقط النظام!

14 يناير 2015
رتبت رموز النظام السابق صفوفها، وتجمعت من جديد (الأناضول)
+ الخط -

حكم المخلوع زين العابدين بن علي تونس طيلة ثلاث وعشرين سنة، طوّع خلالها المؤسسة الأمنية ليحكم ويفرض جبروته وسطوته، كما اعتمد على رجال ونساء في حزبه وفي مؤسسات الدولة، مثّلوا السند والمدبر والمنفذ لسياساته.

منذ أربع سنوات، سقط بن علي، بل هرب. فر الرئيس الذي خلعه شعبه، وظن التونسيون أن نظامه سقط بدوره، وكذلك الحال بالنسبة لرجاله. ظنوا أيضا أن الدولة، التي طالما اشتهرت بـ"الدولة البوليسية"، ستشهد تغييرا في وضع ودور وزارة الداخلية وكامل المؤسسة الأمنية، أو هكذا خُيل لهم.

في السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول سنة 2010، أقدم البائع المتجوّل، محمد البوعزيزي، في محافظة سيدي بوزيد (وسط غرب) على إضرام النار في نفسه، احتجاجا على معاملة شرطية له، ما أدى إلى إطلاق حركة احتجاج شعبية ضد الفقر والبطالة ومطالبة بالحرية والكرامة. سرعان ما اتخذت منحى سياسيا، وامتدت إلى كافة أنحاء البلاد، فسقط 338 شهيداً، بحسب المصادر الرسمية آنذاك.

وفي الرابع عشر من يناير/كانون الثاني سنة 2011، فر بن علي إلى المملكة العربية السعودية، كما فر العديد من أفراد عائلته وعائلة زوجته والمقربين منه من المتهمين بالفساد معه. لكن رجال بن علي في الدولة والحزب كثيرون. اختفى البقية خلال الأيام الأولى من الثورة، غابوا عن مراكز القرار والإعلام، وحتى عن الشارع. وظن التونسيون أن لتونس الجديدة فاعلين جددا في المشهد السياسي والاقتصادي والإعلامي.

رُفعت القضايا على بن علي ورجاله، واحتج جزء من التونسيين ضد ممارساتهم، وبدا المشهد الإعلامي منفتحا على وجوه جديدة وآراء مختلفة.

تعالت الأصوات المطالبة بالمصالحة بين رجال الأمن والمواطن. فجهاز الأمن، الذي استخدم مطولا قبل الثورة لخدمة الحاكم وإرهاب المواطن، اعتذر أخيرا للشعب، وطالب بتكوين نقابات تضمن حقوقه، وعاهد الشعب على الحياد واحترام قيم الحرية والمواطنة وحقوق الإنسان.

وفي السابع والعشرين من نفس الشهر، كوّن رئيس وزراء بن علي، محمد الغنوشي، حكومة انتقالية، لكنها لاقت احتجاجات شعبية، وخرجت مسيرات طالبت بانتخاب مجلس تأسيسي لوضع دستور جديد. وخلف السياسي المخضرم الباجي قايد السبسي، الغنوشي في السابع والعشرين من فبراير/شباط من نفس السنة.

تميزت تلك الفترة بيقظة شعبية، وعارض الكثيرون تعيين قايد السبسي، باعتباره وزيرا سابقا في عهد بورقيبة ورئيس مجلس النواب بداية حكم بن علي، وقبل آخرون بوجوده على رأس الحكومة، طالما اقتصرت مهامه على إيصال البلد إلى مرحلة الانتخابات وتفعيل المؤسسات الشرعية. والآن يرى محللون أن تعيينه كان أحد الأخطاء الكبرى التي أعادت النظام السابق من الباب الكبير.

أما في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول من نفس السنة، فقد أجريت أول انتخابات حرة، انتهت بفوز حركة النهضة الإسلامية بتسعة وثمانين مقعدا من أصل مائتين وسبعة عشر بالمجلس التشريعي، وتلى ذلك انتخاب المنصف المرزوقي المعارض الشرس لبن علي رئيسا للجمهورية.

هكذا إذن، جسدت نتائج انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011 المطالب الثورية، ووضعت أهم المعارضين للنظام السابق في أعلى مناصب الدولة. هؤلاء ساهموا، في رأي جزء من التونسيين نظرا لسوء إدارتهم للفترة، في عودة رموز النظام تدريجياً إلى الإمساك بمقاليد السلطة. كما ساهم تدهور الوضع الأمني خلال سنتي 2012 و2013 في تعقيد الوضع وخيبة أمل جزء من التونسيين.

شهدت تونس في يونيو/حزيران 2012 هجمات على عدة مدن، سقط خلالها قتيل وعدد من الجرحى، كانت قد شنتها عناصر من التيار السلفي، بعد تخريبهم معرضا للفنون التشكيلية اعتبروه مخالفا للإسلام.

وشهد سبتمبر/أيلول من نفس السنة مهاجمة سفارة الولايات المتحدة في تونس، بعد بث مقتطفات من شريط معاد للإسلام على الإنترنت، وسقط إثر ذلك أربعة قتلى من المهاجمين، وتلى ذلك إصابة حوالى 300 جريح في صدامات محتجين مع الأمن في محافظة سليانة جنوب غرب البلاد.

ازداد الوضع بؤساً مع اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد في السادس من فبراير/شباط 2013، وهو ما أدى إلى مظاهرات احتجاج عنيفة في عدد من المدن، وإلى أزمة سياسية أفضت إلى استقالة الحكومة وتعيين رئيس وزراء جديد. وجاء اغتيال المعارض محمد البراهمي ليغرق البلاد في أزمة سياسية أكبر.

ودّعت تونس سنة 2013 بالاغتيالات السياسية والإرهاب أيضا. فقتل ثمانية جنود نهاية العام في جبل الشعانبي على الحدود مع الجزائر، حيث تلاحق السلطات التونسية مجموعة مرتبطة بالقاعدة. وتواصلت المصادمات بين المحتجين والأمن، وتوقف أبرز منافذ الاقتصاد التونسي عن الإنتاج.

في الأثناء، رتبت رموز النظام السابق صفوفها، وتجمعت من جديد في أحزاب ومنظمات مجتمع مدني. عاد بعضها إلى المنابر الإعلامية، ولم تعد تخجل من الافتخار بانتمائها وماضيها، كما ركزت في خطابها على التدهور الأمني، في محاولة لتزيين ماضي بن علي، وفرضت على الحاكمين الجدد التعاطي والتشاور معها، وهو ما اعتبره البعض خيانة للثورة ومطالبها وشهدائها. غير أن حاكمي تونس ما بعد الثورة، خاصة حركة النهضة، اعتبروا أنهم أنقذوا البلاد من سيناريو مشابه لما حدث في مصر ودول الربيع العربي الأخرى.

تغير تدريجيا خطاب قيادات الحزب الإسلامي الأكبر في تونس، ورفضوا تمرير قانون العزل السياسي. كثرت الخلافات في صفوف الترويكا وتشتتوا في أحزاب صغيرة متعددة، بينما تجمع غيرهم. صارت السخرية من الثورة واقعا لا يحرج أحدا، وأخذ اليأس مكانه في صفوف الشباب.

وللخروج من الأزمة، وبعد أشهر من المفاوضات، تخلت حكومة الترويكا الثانية، بقيادة علي العريض، عن السلطة لحكومة تكنوقراط برئاسة مهدي جمعة، وصادق فرقاء السياسة على دستور الجمهورية الثانية، وانطلق الجميع في تحضيراته وتكهناته لنهاية سنة 2014 وما ستحمله من انتخابات تشريعية ورئاسية، سيكون لها كلمة الفصل في تحديد حاكمي تونس ما بعد الفترة الانتقالية.

كانت النتيجة فوز حزب نداء تونس، الذي ينتمي جزء فاعل من قياداته للنظام السابق، بأكبر نسبة في البرلمان التونسي، كما فاز مرشحه بكرسي الرئاسة، وكان له أيضا أحقية اختيار رئيس الحكومة الجديد.

وشغل كل من رئيس الدولة ورئيس البرلمان ورئيس الحكومة الجدد مناصب سامية في منظومة الحكم السابق. ومن الملاحظ أن أغلبهم مر بوزارة الداخلية.

اضطلع رئيس تونس الجديد، قايد السبسي، بمنصب وزارة الداخلية أواخر ستينيات القرن الماضي. أما رئيس الحكومة المكلف، الحبيب الصيد، فهو رئيس ديوان وزير الداخلية زمن المخلوع ووزير الداخلية في فترة حكم قايد السبسي بعد الثورة مباشرة، كما كان مستشارا أمنيا في حكومة الترويكا الأولى.

هؤلاء إذن هم حكام تونس ما بعد ثورة نادت بإسقاط النظام ورفعت شعار "يسقط حزب الدستور يسقط جلاد الشعب"، فتم إسقاطها، هكذا يقول جزء من الشارع التونسي. يرى هؤلاء أيضا أن المرور بالداخلية هو مفتاح حكم تونس ماضيا وحاضرا، وأن إرادة القطع مع الماضي تلاشت تحت وقع الإرهاب والفقر، وأن النظام عاد من جديد أو ربما هو لم يسقط أصلا.

المساهمون