أربعة ألفاظ من شرق المتوسط

12 يوليو 2016
عمل فني لـ هنري ماتيس(ويكبيديا)
+ الخط -

تحمل الأوضاع المتجهة نحو قاع صفصف في شرق المتوسط، في لبنان وفلسطين وسورية والعراق، بعدًا لغويًا إن جاز التعبير. فتلك "الدول" الأربع التي كانت في ماضيها ولفترات طويلة، تمثل مجتمعة مهد الحضارات الإنسانية، غدت منذ منتصف القرن العشرين، مسرحًا لاحتلال واستعمار واستبداد وحروب، تتبارى في شدتها ووتيرتها. لكأن المنطقة برمتها فوهة بركان لا يخمد. وقد أفرز الوضع المأساوي غير المسبوق هذا، "ألفاظًا" تحمل في الآن نفسه معنىً قاموسيًا وآخر مجازيًا. فلو قيل "جرافة"، لعلم المستمع أو القارئ إن المقصود فلسطين، وإن الأمر يتعلق بـ"اقتلاع" جديد للناس من بيوتها و"اقتلاع" أيضًا للأشجار، وبشكل خاص شجرة الزيتون المرتبطة إلى حد كبير بفلسطين. ولو قيل "طائفية"، لأطل لبنان شاهرًا "مأثرته" الكبرى وفضيلته الشهيرة، في تفسير الأمور وتحليلها، والنظر إليها سببًا ونتيجة. ولو قيل البراميل، لظهرت سورية مضرجة بدماء أبنائها قتلى وجرحى وإسمنت مبانيها المهدمة، وطرقاتها المقتلعة. أما لو قيل "مفخخات" لظهر العراق، الذي لم تتوقف "الحرب" فيه ولا عليه منذ أزيد من عقدين، عبر تلك السيارات والمركبات الذاهبة دومًا باتجاه الناس في حيّزهم العام في المدن العراقية، لتوقع أكثر عدد منهم قتلى، وتؤدي الرسالة إياها: لن يعود العراق، ولو لماما. المفخخة الأخيرة، في حي الكرادة ببغداد، كشفت ذلك "الزواج" الناجح بين الاقتصاد الذي معناه العراقي ليس إلا الفساد، والسياسة التي لا تبغي من المعاني كلها إلا التربع على كرسي سلطة، ليست إلا سليلة تضافر المصالح الأميركية والإسرائيلية والإيرانية، من دون أن ننسى بالطبع دور كل "لاعب إقليمي" أو عالمي (كبريطانيا مثلًا) في إيصال العراق إلى هذه الحالة من التكسّر والانشطار والانفجار المتناسلين جميعًا إلى ما لا نهاية.
وأن يتبنى "داعش" الأمر، فلا يغيّر شيئًا كثيرًا من المشهد، إذ إن قتلة العراق كثر، و"داعش" غدا بدوره "ذريعة" ملائمة لتجهيل وتغييب أي شيء أو عامل أو لاعب آخر عداه، فخلط
الأوراق مطلوب. وأن يعتذر رئيس الوزراء الأسبق توني بلير للشعب البريطاني لا عن قرار الحرب ضد العراق بل عن "أخطاء" في التخطيط لها و"خطأ" في المعلومات الاستخبارية، لا يغيّر شيئًا أيضًا، بل لعله يكشف عن درجة متقدمة من الخبث الإنكليزي، وتلك "البراغماتية" الفائقة التهذيب، في انتقاء الكلمات بعناية ورصفها جوابًا على تقرير السير "تشيلكوت" بشأن التحقيق في الحرب على العراق، الذي نشر مؤخرًا. اكتملت "مأساوية" المشهد، بالأخبار التي تناقلت واقع الفساد العراقي الذي لم يوفر أجهزة "كشف المتفجرات"، ففضلًا عن سعرها المزور (الذي يصل إلى أربعين ألف دولار للجهاز الواحد)، تبيّن أنها أصلًا ليست أجهزة كشف متفجرات، والأنكى أن وسيط صفقة الفساد تلك، بريطاني.
قبل الغزو الأميركي للعراق، وتحديدًا في الخامس عشر من فبراير/ شباط عام 2003، نظّمت في أكثر من ثمانمائة مدينة مسيرات احتجاج ضد الحرب على العراق. وكانت أضخم تلك المسيرات في لندن عاصمة "بريطانيا العظمى". لم يصغِ بلير وقتها للناس، ولم يهتم البتة برأيهم "الديمقراطي"، ولعل تلك الصفعة "البليرية" التي تلقاها الشعب، نتيجة لسلوكه الحضاري والسلمي ضد الحرب، أدت بعد ثلاثة عشر عامًا إلى انكفاء الناس عن "السياسة"، كذا يمكن تفسير عزوف الشباب عن التصويت بكثافة ضد الخروج من الاتحاد الأوروبي، فكانت النتيجة كما هو معروف خروج بريطانيا منه.
تلك المسيرة الاحتجاجية اللندنية الضخمة، كانت البؤرة الأساس في الفيلم الوثائقي "نحن كثر" للمخرج الإيراني البريطاني أمير أميراني، الذي يركز على الحركات الاحتجاجية المعارضة لسياسة الحكومة، في أنحاء شتى من العالم، وتحديدًا سياسة "قرار الحرب". وإذ يؤلف المخرج نسقًا غير متسق لفيلمه، فهو يتجاهل تمامًا حركة occupy wall street، لم يفته الربط مع تظاهرات "الربيع العربي" إنما بطريقة خبيثة، تصب في النهاية في السردية الغربية "الاستشراقية". لكن أميراني، وفي خضم توثيقه لندوات وحفلات واجتماعات، شارك فيها "ساسة" أميركيون وبريطانيون، يتأنى عند إحدى الحفلات الأميركية، حيث المدعو الرئيس، ليس إلا الرئيس جورج بوش. وبسبب ولع الأميركيين بالسينما، وضرورة تحضير خطاب يراد أن يكون عفويًا، "يرتجل" بوش مشهدًا "مقرفًا"، إذ يمسك بغطاء الطاولة أمامه، ويرفعه، باحثًا عن شيء ما تحتها، وهو يقول ضاحكًا وساخرًا وبليدًا بالطبع: "أين هي أسلحة الدمار الشامل العراقية؟ أهي هنا؟ آه لا يوجد. لا يوجد أسلحة دمار شامل في العراق".

المساهمون