أدباء ضالّون إلى الصحافة

23 يناير 2015

نائلة خليل ومحمد ضراغمة وماجد عبد الهادي وصالح مشارقة

+ الخط -
يكتبون التقرير الصحافي، وكأنهم يخونون لغة المياه العميقة التي هربوا، أو هُرّبوا، منها، ذات وطأة حاجة لمهنة، فلا ملابس للأطفال في العيد مع الأدب. يحلّقون، أحياناً، وكأنهم يخذلون تعاقدهم الصلب مع المهنة المحبوبة. في التحقيق الصحافي، يحاولون، بخجل، إخفاء رعشاتهم الشعرية من دون جدوى، لا يستسلمون بالكامل لمتعة الإقامة في البيت الأول (الأدب)، لا يلبّون بسرعة طلبات الشعر الملحة لكسر شوكة المعلومة أو ليّ عنق التحليل، ولا يسمحون للصحافة بأن تهين صفاء الإحساس الأصلي. ضائعون هم بين ضرورة الوضوح وغواية التخييل، لكنهم طيبون وأذكياء، مثل أمهات جميلات متعبات، متفانيات، يربين بناتهن على طاعة الطريق ويغضضن طرفهن، أحياناً، عن رقص البنات المتحمس المجنون في أعراس أبناء العم والخالات، أقرأهم بمتعتين: متعة زاوية الرؤية الصحافية الجديدة للأحداث، ومتعة التربص بالصور الشعرية المهرّبة بخجل شجاع بين منحنيات المادة المكتوبة.
يكتب ماجد عبدالهادي مادته مكتوبة، أو مقروءة بصوته، بجرأة صحافي ضائع بتلذذ، محترف ينجح، على الدوام، في عقد صفقة محترمة بين الخبر والتحليل والمعاينة الواقعية وبين الصور الأدبية وفتنة المجاز. في بيتنا، تنتظر الأسرة كلها تقارير ماجد، أبي يقول عنه: هذا شاعر، شاعر، وأمام تقريره الشهير عن (باب الحارة)، رأيت أبي السبعيني يقفز من سريره وهو يصيح: الله أكبر عليك يا ماجد.
في جريدة الأيام، لا أنسى الصور القلمية لمحمد ضراغمة، كنت أنتظرها لأقرأها في الطابور الصباحي مع طلابي. نحلل، أولاً، صورها الشعرية، ونستمتع بلغة المياه العميقة، وهي تتداخل مع الدم الفلسطيني المتصاعد والمسفوك على أرصفة الانتفاضة الثانية. كيف أنسى قصص شهداء المدن اللاهبة، التي كان يرويها ضراغمة بلغة من نار وشعر وكبرياء؟ كيف أنسى قدرته العجيبة على استبطان البعد الجمالي العميق الداثر في حمّى الشعار والندب واللامرئي الهائل في فكرة الشهيد الفلسطيني؟
ما زلت أتابع، بحب ولهفة، المقالات الصحافية لأستاذ الإعلام في جامعة بيرزيت، صالح مشارقة، والتي أكاد أحسم أنها منهوبة بكرم مجنون من نص أدبي ساخن، كتبه قبل المقال. يكتب مشارقة القادم من عالم القصة القصيرة التي مارسها كتابةً وقراءة، ثم طلّقها بحياء قروي مرتعش، لكنه ما زال يدفع لها النفقة بحب واحترام كبيريْن. مقال مشارقة مليء باللقطات الإنسانية الذكية التي تجوس داخل النفس وتتجول داخل الذاكرة، بلغة غاية في الترتيب الجمالي والأناقة، المحسوبة طبعاً والمقصقصة بمقص التعادل المطلوب.
لا تحبس الصحافية الجريئة التي واجهت متاعب وعراقيل كثيرة في عملها الصحافي، نائلة خليل، الأدب في غرفة والصحافة في غرفة. تجمعهما بمهارة حائكة قصص الحياة، مع بعضهما البعض، تربيهما على قانون التناسب، وذكاء العدالة. في تقاريرها وتحقيقاتها الصحافية، تقتحم نائلة المحظور المؤسساتي، ذا النزعة البيروقراطية والاستبدادية، مخترقة أسيجة المؤسسات وجدران الوعي المزيف، تطرق أبواب الحقيقة في كل مكان، وتكتب عن حقوق البسطاء والمظلومين من موظفين ونساء معنفات. ذلك كله باللغة المركبة المحسوبة على مدينتين: مدينة الشعر ومدينة الحقيقة. هل يمكن نسيان تحقيقها الصحافي عن ناجي العلي في لندن؟ قرأته في مكتبة المدرسة، في صباح محلي جداً وضيق ومغترب. اكتشفت نائلة الجميلة والموهوبة هناك، على حدود اغترابي عن كل شيء، فمنحتني رعشة انتماء وطمأنينة لن أنساها.
أظنهم شعراء، هؤلاء الأصحاب الذين ضلّوا (كأجمل ما يكون الضلال) الطريق إلى الصحافة، والصحافة أحبتهم، وحافظت على روائحهم الأولى، وتفهمت خروجاتهم عن النص، بل وقعت، أيضاً، في غرام الخروج.
ماجد وصالح ونائلة ومحمد، أجمل الخارجين. شكراً لكل هذه المتعة.
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.