أداء الموسيقى وتلقّيها... اهتزازات تعبر المادّة المظلمة

08 سبتمبر 2019
الموسيقي الأميركي الروسي فلادمير هوروفيتز (Getty)
+ الخط -
تقوم التجربة الأدائية على أبعاد ثلاثة؛ الأول، البعد الحسّي أو الشعوري. الثاني، البعد الواعي أو الفكري. الثالث، البعد الروحي أو الميتافيزيقي. تكوّن تلك الأبعاد مجتمعةً الفضاء الذي يتشارك فيه كل من المؤدي والمتلقّي. إما بصيغة فردية؛ أداء عازفٍ منفرد أو فرقة لأغنية أو مقطوعة مسجّلة، تُبثّ عن طريق مكبّر صوت أو سمّاعة في أذن، أو صيغة اجتماعية، أداءٌ حيّ بحضور جمهور عريض.

في النتيجة، ما يُميّز التجربة هو إنسانيتها الخالصة. فضاؤها مجالُ اتصالٍ حيوي، قطباه المولّدان هما الإنسان. وعليه، فإن كلّ ما يُعزز من هذا الاتصال ويُحرّض على مزيدٍ منه، يُسهم في حُسن الأداء وقوّة تأثيره وفرص بقائه وتعميره، سواءً في الوجدان أو على مرّ الزمان، بعد أن صار بالإمكان تسجيل الموسيقى وحفظها لأجيال وعصور لاحقة، كما تُحفظ الأعمال الفنية البصرية والأدبية.

المهاد، أو الهبّوثلاموس؛ قاع الدماغ والأقرب للنخاع الشوكي، المسؤول عن توليد الاستجابة الحسيّة الأولية اللاواعية إزاء المنبهات الخارجية، هو أيضاً المُحرك الفطري في الوجود الجسمي للإنسان، يُنبّه غرائز الجوع والجنس وردود الفعل في وجه الخطر. المخيخ، قمّة الدماغ، الأحدث من حيث التطور والأخصّ بالبشر، هو المسؤول عن الوعي وتحليل المعلومات واستنباط الحلول والاستنتاجات.

أيّ تلقٍّ لمعزوفة أو أغنية، وبعد أن تجتاز العين والأذن، أو الأذن من دون العين، سيمرّ بالمهاد أولاً ثم المخيخ. لذا، فإن الاستثارة الحسية هي المشبك الذي من دونه لن تؤسس التجربة الأدائية. بها أولاً، يستأثر الفنان بالحضور ويأسر القلوب. بعد ذلك، يأتي سلب الألباب، أي العبور من الحسّي الشعوري إلى الواعي والفكري. هناك، حيث إعمال الذاكرة وإطلاق المُخيّلة.

بداهة القول، إذن، إن قوة أداء أيّ مؤدٍ كان، وأيّاً كان مجال أدائه، سواءً بالمسرح أو بالرقص أو بالموسيقى، أو حتى حين يخطب في الجمهور سياسيٌّ مفوّه أو داعية، تكمن في المرور في كلا المستويين؛ الحسي اللاواعي ثم الواعي الفكري. بداهةً أيضاً، الاستطراد والقول إن المؤدي، بمستويي حضوره الحسي والفكري، إنما هو ناشطٌ بالضرورة ومتصلّ مع المتلقي وبقدر موازٍ.

حين يشرع الموسيقي وعازف العود منير بشير في تقسيمٍ على مقام الصبا، تُحدث ريشته استثارة حسية، ناتجُ انقباضِ النغمات الأربع الأولى المُكوّنة للمقام. يستقبلها المستمع فتصدرُ عنه الآه الأولى. تُستكمل الاستثارة باستجابة الذاكرة والمُخيلة صوراً تربط الصبا بالحزن والأسى، فتصدر عنه الآه الثانية. الآه الثالثة روحانية، تصدر عن حضور كل من المؤدي والمُستمع مع الآخر وبالآخر في حضرة المقام.

المؤدي هو أول المتلقّين. بتعبير آخر، لن تؤثر في الجمهور ليلية - Nocturne من ليليّات المؤلف الرومانسي شوبان على نحو بالغ وعميق، ما لم تكن قد أثّرت في بادئ الأمر في مؤديها على البيانو فلادمير هوروفيتز. الأداء من هذا المنطلق هو إعادة إحياءٍ لتجربة المؤدي السمعية، يبثّها ويشاركها مع الآخرين. بقدر ما يُحسن المؤدي ويُتقن، بقدر ما يقترب أداؤه من صورة الصوت التي في مكنونه.

بحكم الموهبة والدُّربة الطويلة، يتمتع المؤدي ضمن مجاله بحساسية قد تفوق جمهوره، تجعل من تجربته السمعية كمُتلقٍّ أشبه بمثالٍ محالٌ إدراكه. لذا، يُعاني المؤدي بشكل مزمن وموجع من حالة انعدام الانسجام cognitive dissonance بين استجابته الداخلية للمؤدَّى وبين ما يتيسّر له من إرسال وإيصال إلى عامة الناس بحدود مقدرته البشرية وقيود بيئته وأدواته الفنية.

في حالة الفنان القدير، فإن العلاقة طردية، كـ "الأواني المُستطرقة"، بين استجابته الخاصة كمتلقٍ أولاً، ومن ثم قوة أدائه وتأثيره. بهذا، كلما ارتفعت صورة الأداء المثالية في خياله وعلت، علا مستوى أدائه وارتفع، مع استحالة التقاء الصورة بالناتج العابر من ذاته إلى ذوات المُستمعين. إنه العماء إذن، تلك المادة المظلمة في داخله، التي تفصل بين الأداء الذي يكون وما ينبغي عليه أن يكون.

في سعي المؤدي الأسمى إلى صورة المؤدَى، لا بد له من وسائل، منها الفطريّ الموهوب، ومنها التقني المُكتسب. ليست الدراسة العلمية أساسية، فأسطورة الغيتار الكهربائي جيمي هندريكس لم يُحسن حتى قراءة النوتة الموسيقية. ما تتطلّبه وسائل التعبير هي الممارسة المستمرة والمِران الطويل، إلى أن تُشحذ الأدوات وتصير امتداداً طبيعياً للمؤدي واستطالة خارجية لوجوده.

الصوت والنبرة أهم تلك الوسائل التعبيرية بالنسبة للمشتغلين بالموسيقى، سواءً كان غناءً بالصوت البشري أو عزفاً على آلة. الصوت هو الهوية الروحية والبصمة الشخصية للمؤدي. في حالة العزف، لا يتميّز الصوت بتميّز الآلة وحدها. لم تكن آلة عازف الكمان الراحل، ذي الصوت الخالد، دافيد أويستراخ، الأفضل من بين آلات صانع الوتريّات الإيطالي الشهير ستراديفاريوس.

صوت المؤدي ونبرته الخاصة مُجملُ كيانه الجسدي والنفسي. حاصل جمع مقاييسه الجسمية مع تركيبته العاطفية ورهافته الحسية وخبرته الحياتية، ناهيك عن سيرته الفنيّة وقدراته التقنية. لأم كلثوم نبرة حارة، وصوت عريض وطلق، في حين أن لصوت محمد عبد الوهاب نبرة طليّة وصوتا داكنا وواطئا. لذا، تتميّز الست أم كلثوم بالدرامية والعاطفية، فيما يتميّز عبد الوهاب باللباقة والاتزان.

بوصفها وسيلة اتصال مجازية فائقة التجريد، تشترك الموسيقى مع اللغة في النبرة، من حيث الشدة والخفة والمدّ والقبضّ على نغمة بعينها بُغية توكيدها وتحميلها شحنةً عاطفيّة مُحددة تحاكي الصورة التي في بال المؤدي. غالباً ما يجتهد العازفون أولاً في قراءة المؤثّرات كما دوّنها المؤلف في النص المخطوط. إلا أن المقادير في التأويل والتنفيذ تعود في الأخير إلى المؤدي في الاجتهاد والتفسير.

الإيقاع الشخصي والحس الخاص بالزمن، أو ما يُمكن أن يُسمّى بالأسلوب؛ هو كيفية قيادة المؤدي لمسار الجُملة الموسيقية، بناءً على الإيقاع المذكور في النص أو المنقول عن التراث. إدارة العلاقة بين الصوت والصمت تدخل بدورها على حس الإيقاع لدى المؤدي من باب الزمن الجمالي. لعل أشدّ ما يُميّز شخصية منير بشير الأدائية، عن أخيه جميل، هو إبرازه للصمت كعنصر تعبيرٍ مستقل بذاته.

لـ جون بونام، ضارب طبول فريق اللد - زيبلين، أثر لاجم على موسيقى الهارد روك، يشدّ من إيقاعها ويُمسك به، مُضفياً على الأغنية مقداراً من السعة والوزن، ليُمهد بذلك الطريق أمام لون الهيفي- ميتال. فيما أضاف جو موريللو؛ قارع الطبول في رباعي ديف بروبك للجاز عنصر الخفة والحركة، الأمر الذي ساهم بدوره في بلورة شخصية الرباعي كنموذج للون الفيوجن؛ الجاز المُنمّق والرفيع.

إدارة دوزنة الأنغام وسيلة أخرى للتعبير تميّز مؤدياً عن آخر. في الإطار العام، يعمل معظم المؤدين الجادين على اختلاف أجناس موسيقاهم على حيازة دوزان (Intonation) نقيّ مُتناسق يسمح لهم بالعمل بانسجام مع زملاء منفردين أو منضوين في فرق. قد يستغرق العمل على الدوزان سنوات طويلة من التمرين، حتى يُصبح لدى المؤدي دوزانٌ مستقر ومُحترف.

إلا أنه وبمجرّد بلوغ ذلك المستوى من الدربة الموسيقية، يبدأ بتجاوز قواعد الصحّة والثبات، وذلك في سبيل خلق دوزان شخصي، حرّ وتعبيري. إنها العتبة التي باجتيازها يرتقي المؤدي من رتبة المُحترف العازف أو المُغنّي إلى رُتبة الفنان. حين يُحسن تحرير الدوزان، يستطيع عندها التحكم في العلاقات بين نغمات الألحان بحسب المُتطلّبات التعبيرية للقطعة الموسيقية أو الأغنية.

لذا، فإن لكل مؤدٍ فنان، عازفاً كان أم مُغنياً، دوزاناً شخصياً، يأتلف بانسجام مع دوزان الآخرين، من دون أن يذوب كليّاً في العام ويفقد فرديّته وسحره الخاص. يظلّ قادراً على تحريك النغمات بمُقتضى الحاجة التعبيرية والحالة النفسية، سواءً أثناء التسجيل أو الأداء الحي، بارتجالٍ وعفوية أو عن سابق نيّة فنيّة. مثلما يرفع عبقري الراغا تي إم كرشنا النغمة/السوارا ويُنزّل لضرورة الطرب.

استكمالاً للارتقاء على سلم التميّز في الإداء، وذلك بمزيدِ من الحرية إزاء القيود العامة والصارمة، يبزُغ عنصر الإقدام الفني واحداً من أهم مُميّزات المؤدي البارز. فبما أن فضاء التجربة الأدائية إنسانيٌّ خالص قوامه أبعادٌ ثلاثة؛ حسيّة وفكرية وروحية، تتجلى قوّة الأداء، إذن، بقدر ما يتجلّى اختباره مشابهاً للحياة، يتمثّل ذلك في إقدام المؤدي على المخاطرة فنيّاً غير آبه بفاحصٍ ولا ناقد.

كثيراً ما يُظن، خصوصاً في زمن المسابقات الفنية التي تحاكي البطولات الرياضية، أن السعي إلى مزيدٍ من الجودة التقنية والنقاء المادي من أي زلّة أو خطأ، يزيد من عمق تأثير الأداء. بيد أنه، وبما أن غاية الأداء المشاركة والتواصل بين العازف والمتلقي؛ فإن العجز في ظل الحِنكة والهفوة عند المقدرة، والإقدام الفنّي، كلها عوامل تؤنسن التجربة الأدائية وتُقرّب الفنان من جمهوره.

في ترنيمة "يا مريم البكر"، ألحان الأخوين رحباني، تتحدى فيروز حدود الرئتين، حين تصعد بها الجملة الموسيقية عَتبة عليا، تُقْدم على المجازفة مُتابعةً الغناء من دون قطعٍ للجملة بغية أخذ شهيق جديد، تُشكّل كل نغمة على وجه تام حتى آخر الزفير. بهذا، تخلق فيروز لحظة من الضعف الإنساني، بُرهة من الانكشاف الإيماني، تُشارك بها قلبَ المستمع، في حضرة وجلال القدسي والروحاني.

الحضور والجاذبية الشخصية عاملٌ آخر مُكمّل يصل المؤدي بجمهوره. يتصل به عبر أطباق بثّ غير مرئية، بعدّة أدواته التعبيرية من صوت ونبرة خاصة، إيقاع فريد ودوزان أنغام حيوي مرن، إن هو تحلى بالشجاعة الفنية، فسينجح في إثارة الدهشة بين الناس، يبعث في قلوبهم الصدمة الشعورية، مُحدثاً خرقاً في الوجود، فيجعل من دار الفناء أفضل تعاسةً على نحو ما.

ليس الجمال أو الوسامة شرطاً لجاذبية المؤدي. هو غائبٌ بمحاسنه عند الاستماع إلى قرص مسجّل أو موقع تحميل. إنما حضوره بحسّه وفكره وروحانيته. بسبب شلل أطفال كان قد أصابه، لا يستطيع عازف الكمان إتزاك بيرلمان المشي من دون عكازين. يجلس في المسرح على كرسيٍّ وساقاه مُكبّلتان بالصفائح. إلا أنه، ومع أول صوت يُصدره كمانه، تصير الصفائح الحديدية أجنحة ملائكية.

المساهمون