تظهر تقارير عن نسب الفساد في مستشفيات بريطانيا العامة، حجم الأخطاء والإهمال في هذا القطاع الحيوي. ومجرّد نظرة سريعة على شكاوى رفعها المرضى أو أقاربهم ضدّ أطباء أخطأوا في تشخيص ما أو تسبّبوا بوفاة مريض، تجعلك أكثر حذراً إزاء نظام الرعاية الصحية المجانية في بلد متطوّر مثل بريطانيا.
الوافدون من بلدان العالم الثالث بأكثريتهم، قد يظنّون أنّه نظام بعيد عن الشبهات ومحلّ ثقة تامة. صحيح أنّ الأخطاء قد تحدث في كلّ مكان، إلا أنّ التستّر عليها من قبل مستشفى ما أو إيهام أهل المريض بأنّ الوفاة مثلاً كانت حتمية ولا مجال لإنقاذه، مسألة تستحق التوقّف عندها.
أحدث الروايات عن التقصير الطبي، حصلت في مستشفى "بريستول رويال للأطفال"، على خلفيّة نقص في عدد الموظفين أو نقص في المهارات، وأدّى إلى وفاة عدد من الأطفال. ولقد أصيب أهل هؤلاء الضحايا بالذهول ثمّ غضبوا، فيما عبّر كثيرون منهم عن قلقهم إذ إنّ أطفالهم لقوا حتفهم من دون سبب وجيه. دفع ذلك "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" في بريطانيا إلى فتح تحقيق ومراجعة في المستشفى في يونيو/ حزيران المنصرم، نتج عنهما مطالبات بمعالجة قضايا عديدة تبدأ من مستوى التوظيف إلى كيفية تعامل الطاقم الطبي وتواصله مع الأسر. يُذكر أنّ الأهالي دعوا إلى مراجعة وطنية تشمل جميع وحدات العناية المركّزة للأطفال.
تجدر الإشارة إلى أنّ مستشفى "بريستول رويال للأطفال" كان مسرحاً لفضيحة كبيرة في عام 1990، حين تبيّن أنّ عشرات الأطفال قضوا بعد خضوعهم إلى عمليات جراحية في القلب. وخلص التحقيق في عام 2001 إلى أنّ 35 طفلاً تقلّ أعمارهم عن عام واحد، كان من الممكن إنقاذ حياتهم لولا التقصير.
وتتنوّع القضايا على مواقع شبكة الإنترنت التي تُسجّل في مستشفيات مختلفة، ومنها وفاة طفل بعد ولادته في الأسبوع السابع والعشرين، بسبب عدم توفير الأكسجين الكافي له في المستشفى. مأساة حاول القيّمون على المستشفى طمسها بحجّة أنّه ولد في حالة حرجة، الأمر الذي تسبّب في وفاته. لم يقتنع الأهل، ورفعوا شكواهم إلى القضاء، لتأتي النتائج لصالحهم وليكتشفوا جريمة إهمال إمداد طفلهم بالأكسجين اللازم.
في قضيّة أخرى، لاحقت شابة المستشفى حيث كانت تُعالَج والدتها، لعجز الطاقم فيه عن تشخيص إصابة والدتها بمرض السرطان وإعطائها أدوية لا علاقة لها بعلاجها على مدى عامَين. حادثة محزنة، أدّت إلى وفاتها المبكرة. ربّما كانت لتعيش مدّة أطول لو تناولت العقار الصحيح.
إبهام أبو خليل
أمّا رواية خليل وهو شاب لبناني مقيم في العاصمة البريطانية لندن منذ سنوات طويلة، فقد تبدو بسيطة بالمقارنة مع تلك المآسي، لكنّه أراد التحدّث عنها، إيماناً منه بأنّها قد تكون تحذيراً لكثيرين ممّا يجري في أروقة المستشفيات. يخبر: "بينما كان والدي (74 عاماً) يقطع الخشب بواسطة منشار كهربائي، تأذّت إبهامه اليمنى وكادت أن تُقطع من مكانها. هرعنا به إلى أقرب مستشفى عند الساعة الثانية من بعد الظهر، فأبلغونا بضرورة نقله إلى مستشفى آخر لإنقاذ إبهامه من قبل طبيب متخصّص في الجراحة التجميلية، بعدما بيّنت صور الأشعة أنّ الشريان الرئيسي لم يُقطع ومن الممكن معالجته".
يكمل خليل سرده لـ"العربي الجديد": "وصلنا إلى قسم الطوارئ عند الساعة السادسة تقريباً. وبعد نصف ساعة، استدعي والدي، لتسأله إحدى الموظّفات بضعة أسئلة وتطلب منه الانتظار مجدّداً. جلسنا هناك، ننتظر معه، والدتي وإخوتي وأنا. فجأة بدأ الدم يسيل بغزارة من إبهامه. أسرع أخي إلى موظفة الاستقبال في قسم الطوارئ طالباً المساعدة، لكنّها ردّت بأنّ عليه الانتظار ريثما ينادونه. وقبل أن تتدخّل أختي ويرتفع صوتنا هناك، سمعنا اسم والدي من الناحية الأخرى. دخلت معه إلى القسم الذي يسمى بالمنطقة الخضراء، إذ هو لا يجيد اللغة الإنكليزية. وعند الساعة التاسعة مساء، فحصه أحد الأطباء ثمّ أبلغنا بنبرة مستهترة أنّ الأمر لا يستدعي عملية جراحية وهو غير طارئ. أضاف أنّ بإمكانه مغادرة المستشفى بعد تضميد جرحه، وطلب منه الاتصال لاحقاً لتحديد موعد لقطع إبهامه".
اقــرأ أيضاً
يقول خليل: "صدمني الطبيب بما قاله والذي تناقض مع رأي نظيره في المستشفى السابق. شدّدت على أنّ والدي يحتاج إلى عملية لإنقاذ إبهامه، بيد أنّه رفض التراجع عن رأيه. فاتصلت بطبيب صديق يعمل في المجال ذاته، وأرسلت له صورة الأشعة. لحسن الحظ، تبيّن أنّ الطبيبَين يعرفان بعضهما بعضاً". ويستكمل: "لولا تدّخل صديقي لأصبح أبي من دون إبهام".
يوضح خليل أنّه يريد إيصال صوته إلى الجميع، حتى لا يقع مرضى آخرون فريسة بين أيدي المستهترين من الأطبّاء. ويتابع أنّ "الإهمال وسوء الإدارة لم ينتهيا عند ذلك الحد، بل بقي والدي ينتظر الحصول على سرير ليمضي ليلته في المستشفى، حتى يتهيّأ للعملية الجراحية التي حدّدت صباح اليوم التالي. عند منتصف الليل، أبلغونا أنّهم عاجزون عن توفير غرفة له، لذلك أرسلوه إلى القسم الخاص بالمرضى بعد الجراحة. فسرنا في ممرّات المستشفى وراء إحدى الممرّضات التي لم تتوقّف عن الاعتذار بسبب عدم توفير غرفة لوالدي والقول إنّها غير مسؤولة. هناك، تركتنا لندخل في نقاش آخر مع موظفي القسم الذين تبيّن أنّهم لا يملكون أدنى فكرة عن توفير سرير لوالدي". حينها، طلب خليل التحدّث إلى الشخص المسؤول. لكنّه رفض مقابلتهم أو التحدّث إليهم. وبعد إلقاء اللوم على بعضهم بعضاً، أبلغهم بتوفّر سرير احتياطي في الممرّ المحاذي للغرفة. كانت تلك "أمسية مريعة" بالنسبة إلى خليل الذي لم يتوقّع حدوث المثل في مستشفيات بريطانيا.
المغلّف الصغير
حاولت "العربي الجديد" الاطلاع على هذا الموضوع، فتحدّثت إلى طبيب متخصص في زرع الأعضاء في بريطانيا، فضّل عدم ذكر اسمه تفادياً للوقوع في مشاكل. يقول إنّ "وزير الصحة البريطاني جيريمي هانت يحاول بشتّى الوسائل منع حدوث مثل تلك الأمور، خصوصاً التقصير والإهمال في واجبات الرعاية الصحية، ويسعى إلى تمديد أيام عمل الأطبّاء لتشمل عطل نهاية الأسبوع. لكنّ الأطباء بأكثريتهم يرفضون ذلك، على الرغم من تقاضيهم مبالغ أكبر ممّا يستحقون وقيامهم بجهد أقلّ بكثير من الأطبّاء في ألمانيا وباريس". ويلفت إلى أنّ "الأهم في مستشفيات بريطانيا هو عدم انتشار ثقافة الرشوة كما في المستشفيات اليونانية حيث هناك ما يُطلَق عليه الظرف الصغير، الذي يُستخدم كمصطلح في الثقافة اليونانية للإشارة إلى رشوة الموظفين العموميين وشركات القطاع الخاص من قبل مواطنين بهدف الإسراع في الخدمة".
اقــرأ أيضاً
تجدر الإشارة إلى أنّ الصحافة البريطانية كانت قد أشارت في وقت سابق، إلى احتمال دخول ثقافة الرشوة إلى مستشفيات بريطانيا، مثلما يحدث في دول أوروبا الشرقية التي تعاني من نقص في المصادر وأعداد متزايدة من المرضى، خصوصاً في ظلّ شعور موظفي القطاع العام بأنّ رواتبهم مجمّدة لا تتغيّر فيما يتحمّلون مزيداً من الأعباء. وهذا ما يولّد لديهم شعوراً بأنّ المبالغ التي يتقاضونها لا تكافئ الجهد الذي يبذلونه، فيتخلّون عن مهنتهم أو يقبلون الرشوة. إلى ذلك، فإنّ الشعب الإنكليزي يضع ثقته المطلقة في مستشفيات البلاد، ويرى أنّ أيّ خلل أو فساد قد يحدث فيها لا بدّ من أنه حالة عابرة أو مؤقّتة. لكن الصحافة حذّرت من أنّه في حال شعر المرضى بأنّ المسألة لم تعد مؤقّتة، فمن الممكن أن ينهار ولاؤهم لنظام الرعاية الصحية.
مآس يوميّة
في السياق ذاته، يشير طبيب من أصول عربية متخصص في الجراحة التجميلية، فضّل أيضاً عدم ذكر اسمه، إلى مآس يومية تصيب مئات لا بل آلاف الأشخاص الذين يعالَجون مجاناً وعلى حساب "هيئة الخدمات الصحية الوطنية". ويقول لـ "العربي الجديد" إنّ "من الطبيعي وقوع الأخطاء الطبيّة حين تقدّم مجاناً ويتقاضى الأطبّاء بدلاً عنها أجراً زهيداً"، مؤكداً على أنّ نسبتها تزيد بصورة كبيرة وشاسعة عن الطبابة في القطاع الخاص. يضيف أنّ التحقيق الكبير في مستشفيات بريطانيا بدأ في عام 2011 حين كشفت "لجنة رعاية الجودة" التي تراقب وتتفقّد المستشفيات بانتظام، عن فضائح مستشفى "ميد ستافوردشاير" وارتفاع معدّلات الوفيّات بين المرضى فيه والإهمال المنتشر بين الممرّضين والأطبّاء هناك.
ويوضح أنّه "لا يحقّ لأيّ طبيب أن يبدأ العمل في القطاع الخاص إن لم يعمل أولاً في القطاع العام لمدّة عام على أقلّ تقدير، وثمّة اختبارات ومعايير عليه اجتيازها قبل أن يُسمح له بممارسة مهنته في القطاع الخاص. وقبل مدّة قصيرة فُرض على كلّ طبيب أن يكتب تقريراً سنوياً عن العمليّات التي أنجزها خلال عام، الناجحة منها وكذلك الفاشلة، بالإضافة إلى المشاكل التي واجهها. أيضاً، ينبغي عليه أن يسجّل، في حال زرع مواد في جسم المريض، نوعية تلك المواد التي استخدمها، على أن يقدّم تقريره إلى مركز خاص في المستشفى الذي يعمل لديه.
بدوره، ينشره المستشفى على موقع خاص للتعريف بإنجازات كل طبيب، يدعى: دكتور فوستر". أمّا عن الشكاوى التي يقدّمها المرضى للمستشفى، فيقول إنّها تمرّ بمراحل روتينية ويُصار إلى التداول بها في اجتماع للمعنيين بتلك الأمور. وإن أراد مقدّم الشكوى أن يرفع قضيته إلى المحاكم فبإمكانه ذلك، إن لم يقتنع بقرار المستشفى.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ خليل، تقدّم بشكوى رسمية أمام المستشفى وطالب بالتحقيق حول ما حدث مع والده. "على الرغم من نجاح عمليته الجراحية وتحسّن حاله، إلا أنّني أؤمن بأنّ تقديم شكوى هو أمر في غاية الأهميّة حتى لا يتعرّض مرضى آخرون للإهمال وتهدَّد حياتهم بالخطر، إن لم يكونوا على صداقة مع طبيب يتوسّط لهم. فوالدي كاد أن يفقد إبهامه لولا معرفتي بجرّاح".
قد يعتقد كثيرون أنّ الخطأ في تشخيص مرض أو التسبّب في وفاة إنسان بالإضافة إلى الإهمال وتدّني مستوى النظافة والرعاية الصحيّة، أمور لا تحدث في الدول المتطوّرة الراقية، لكنّ الواقع يكشف أنّ انعدام الرقابة أو غضّ النظر عن كثيرين أينما وجدوا وفي أيّ ميدان عمل، قد يؤدّي بهم إلى ارتكاب أخطاء عن قصد أو عن غير قصد، طالما أنّهم لن يحاسَبوا.
اقــرأ أيضاً
الوافدون من بلدان العالم الثالث بأكثريتهم، قد يظنّون أنّه نظام بعيد عن الشبهات ومحلّ ثقة تامة. صحيح أنّ الأخطاء قد تحدث في كلّ مكان، إلا أنّ التستّر عليها من قبل مستشفى ما أو إيهام أهل المريض بأنّ الوفاة مثلاً كانت حتمية ولا مجال لإنقاذه، مسألة تستحق التوقّف عندها.
أحدث الروايات عن التقصير الطبي، حصلت في مستشفى "بريستول رويال للأطفال"، على خلفيّة نقص في عدد الموظفين أو نقص في المهارات، وأدّى إلى وفاة عدد من الأطفال. ولقد أصيب أهل هؤلاء الضحايا بالذهول ثمّ غضبوا، فيما عبّر كثيرون منهم عن قلقهم إذ إنّ أطفالهم لقوا حتفهم من دون سبب وجيه. دفع ذلك "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" في بريطانيا إلى فتح تحقيق ومراجعة في المستشفى في يونيو/ حزيران المنصرم، نتج عنهما مطالبات بمعالجة قضايا عديدة تبدأ من مستوى التوظيف إلى كيفية تعامل الطاقم الطبي وتواصله مع الأسر. يُذكر أنّ الأهالي دعوا إلى مراجعة وطنية تشمل جميع وحدات العناية المركّزة للأطفال.
تجدر الإشارة إلى أنّ مستشفى "بريستول رويال للأطفال" كان مسرحاً لفضيحة كبيرة في عام 1990، حين تبيّن أنّ عشرات الأطفال قضوا بعد خضوعهم إلى عمليات جراحية في القلب. وخلص التحقيق في عام 2001 إلى أنّ 35 طفلاً تقلّ أعمارهم عن عام واحد، كان من الممكن إنقاذ حياتهم لولا التقصير.
وتتنوّع القضايا على مواقع شبكة الإنترنت التي تُسجّل في مستشفيات مختلفة، ومنها وفاة طفل بعد ولادته في الأسبوع السابع والعشرين، بسبب عدم توفير الأكسجين الكافي له في المستشفى. مأساة حاول القيّمون على المستشفى طمسها بحجّة أنّه ولد في حالة حرجة، الأمر الذي تسبّب في وفاته. لم يقتنع الأهل، ورفعوا شكواهم إلى القضاء، لتأتي النتائج لصالحهم وليكتشفوا جريمة إهمال إمداد طفلهم بالأكسجين اللازم.
في قضيّة أخرى، لاحقت شابة المستشفى حيث كانت تُعالَج والدتها، لعجز الطاقم فيه عن تشخيص إصابة والدتها بمرض السرطان وإعطائها أدوية لا علاقة لها بعلاجها على مدى عامَين. حادثة محزنة، أدّت إلى وفاتها المبكرة. ربّما كانت لتعيش مدّة أطول لو تناولت العقار الصحيح.
إبهام أبو خليل
أمّا رواية خليل وهو شاب لبناني مقيم في العاصمة البريطانية لندن منذ سنوات طويلة، فقد تبدو بسيطة بالمقارنة مع تلك المآسي، لكنّه أراد التحدّث عنها، إيماناً منه بأنّها قد تكون تحذيراً لكثيرين ممّا يجري في أروقة المستشفيات. يخبر: "بينما كان والدي (74 عاماً) يقطع الخشب بواسطة منشار كهربائي، تأذّت إبهامه اليمنى وكادت أن تُقطع من مكانها. هرعنا به إلى أقرب مستشفى عند الساعة الثانية من بعد الظهر، فأبلغونا بضرورة نقله إلى مستشفى آخر لإنقاذ إبهامه من قبل طبيب متخصّص في الجراحة التجميلية، بعدما بيّنت صور الأشعة أنّ الشريان الرئيسي لم يُقطع ومن الممكن معالجته".
يكمل خليل سرده لـ"العربي الجديد": "وصلنا إلى قسم الطوارئ عند الساعة السادسة تقريباً. وبعد نصف ساعة، استدعي والدي، لتسأله إحدى الموظّفات بضعة أسئلة وتطلب منه الانتظار مجدّداً. جلسنا هناك، ننتظر معه، والدتي وإخوتي وأنا. فجأة بدأ الدم يسيل بغزارة من إبهامه. أسرع أخي إلى موظفة الاستقبال في قسم الطوارئ طالباً المساعدة، لكنّها ردّت بأنّ عليه الانتظار ريثما ينادونه. وقبل أن تتدخّل أختي ويرتفع صوتنا هناك، سمعنا اسم والدي من الناحية الأخرى. دخلت معه إلى القسم الذي يسمى بالمنطقة الخضراء، إذ هو لا يجيد اللغة الإنكليزية. وعند الساعة التاسعة مساء، فحصه أحد الأطباء ثمّ أبلغنا بنبرة مستهترة أنّ الأمر لا يستدعي عملية جراحية وهو غير طارئ. أضاف أنّ بإمكانه مغادرة المستشفى بعد تضميد جرحه، وطلب منه الاتصال لاحقاً لتحديد موعد لقطع إبهامه".
يقول خليل: "صدمني الطبيب بما قاله والذي تناقض مع رأي نظيره في المستشفى السابق. شدّدت على أنّ والدي يحتاج إلى عملية لإنقاذ إبهامه، بيد أنّه رفض التراجع عن رأيه. فاتصلت بطبيب صديق يعمل في المجال ذاته، وأرسلت له صورة الأشعة. لحسن الحظ، تبيّن أنّ الطبيبَين يعرفان بعضهما بعضاً". ويستكمل: "لولا تدّخل صديقي لأصبح أبي من دون إبهام".
يوضح خليل أنّه يريد إيصال صوته إلى الجميع، حتى لا يقع مرضى آخرون فريسة بين أيدي المستهترين من الأطبّاء. ويتابع أنّ "الإهمال وسوء الإدارة لم ينتهيا عند ذلك الحد، بل بقي والدي ينتظر الحصول على سرير ليمضي ليلته في المستشفى، حتى يتهيّأ للعملية الجراحية التي حدّدت صباح اليوم التالي. عند منتصف الليل، أبلغونا أنّهم عاجزون عن توفير غرفة له، لذلك أرسلوه إلى القسم الخاص بالمرضى بعد الجراحة. فسرنا في ممرّات المستشفى وراء إحدى الممرّضات التي لم تتوقّف عن الاعتذار بسبب عدم توفير غرفة لوالدي والقول إنّها غير مسؤولة. هناك، تركتنا لندخل في نقاش آخر مع موظفي القسم الذين تبيّن أنّهم لا يملكون أدنى فكرة عن توفير سرير لوالدي". حينها، طلب خليل التحدّث إلى الشخص المسؤول. لكنّه رفض مقابلتهم أو التحدّث إليهم. وبعد إلقاء اللوم على بعضهم بعضاً، أبلغهم بتوفّر سرير احتياطي في الممرّ المحاذي للغرفة. كانت تلك "أمسية مريعة" بالنسبة إلى خليل الذي لم يتوقّع حدوث المثل في مستشفيات بريطانيا.
المغلّف الصغير
حاولت "العربي الجديد" الاطلاع على هذا الموضوع، فتحدّثت إلى طبيب متخصص في زرع الأعضاء في بريطانيا، فضّل عدم ذكر اسمه تفادياً للوقوع في مشاكل. يقول إنّ "وزير الصحة البريطاني جيريمي هانت يحاول بشتّى الوسائل منع حدوث مثل تلك الأمور، خصوصاً التقصير والإهمال في واجبات الرعاية الصحية، ويسعى إلى تمديد أيام عمل الأطبّاء لتشمل عطل نهاية الأسبوع. لكنّ الأطباء بأكثريتهم يرفضون ذلك، على الرغم من تقاضيهم مبالغ أكبر ممّا يستحقون وقيامهم بجهد أقلّ بكثير من الأطبّاء في ألمانيا وباريس". ويلفت إلى أنّ "الأهم في مستشفيات بريطانيا هو عدم انتشار ثقافة الرشوة كما في المستشفيات اليونانية حيث هناك ما يُطلَق عليه الظرف الصغير، الذي يُستخدم كمصطلح في الثقافة اليونانية للإشارة إلى رشوة الموظفين العموميين وشركات القطاع الخاص من قبل مواطنين بهدف الإسراع في الخدمة".
تجدر الإشارة إلى أنّ الصحافة البريطانية كانت قد أشارت في وقت سابق، إلى احتمال دخول ثقافة الرشوة إلى مستشفيات بريطانيا، مثلما يحدث في دول أوروبا الشرقية التي تعاني من نقص في المصادر وأعداد متزايدة من المرضى، خصوصاً في ظلّ شعور موظفي القطاع العام بأنّ رواتبهم مجمّدة لا تتغيّر فيما يتحمّلون مزيداً من الأعباء. وهذا ما يولّد لديهم شعوراً بأنّ المبالغ التي يتقاضونها لا تكافئ الجهد الذي يبذلونه، فيتخلّون عن مهنتهم أو يقبلون الرشوة. إلى ذلك، فإنّ الشعب الإنكليزي يضع ثقته المطلقة في مستشفيات البلاد، ويرى أنّ أيّ خلل أو فساد قد يحدث فيها لا بدّ من أنه حالة عابرة أو مؤقّتة. لكن الصحافة حذّرت من أنّه في حال شعر المرضى بأنّ المسألة لم تعد مؤقّتة، فمن الممكن أن ينهار ولاؤهم لنظام الرعاية الصحية.
مآس يوميّة
في السياق ذاته، يشير طبيب من أصول عربية متخصص في الجراحة التجميلية، فضّل أيضاً عدم ذكر اسمه، إلى مآس يومية تصيب مئات لا بل آلاف الأشخاص الذين يعالَجون مجاناً وعلى حساب "هيئة الخدمات الصحية الوطنية". ويقول لـ "العربي الجديد" إنّ "من الطبيعي وقوع الأخطاء الطبيّة حين تقدّم مجاناً ويتقاضى الأطبّاء بدلاً عنها أجراً زهيداً"، مؤكداً على أنّ نسبتها تزيد بصورة كبيرة وشاسعة عن الطبابة في القطاع الخاص. يضيف أنّ التحقيق الكبير في مستشفيات بريطانيا بدأ في عام 2011 حين كشفت "لجنة رعاية الجودة" التي تراقب وتتفقّد المستشفيات بانتظام، عن فضائح مستشفى "ميد ستافوردشاير" وارتفاع معدّلات الوفيّات بين المرضى فيه والإهمال المنتشر بين الممرّضين والأطبّاء هناك.
ويوضح أنّه "لا يحقّ لأيّ طبيب أن يبدأ العمل في القطاع الخاص إن لم يعمل أولاً في القطاع العام لمدّة عام على أقلّ تقدير، وثمّة اختبارات ومعايير عليه اجتيازها قبل أن يُسمح له بممارسة مهنته في القطاع الخاص. وقبل مدّة قصيرة فُرض على كلّ طبيب أن يكتب تقريراً سنوياً عن العمليّات التي أنجزها خلال عام، الناجحة منها وكذلك الفاشلة، بالإضافة إلى المشاكل التي واجهها. أيضاً، ينبغي عليه أن يسجّل، في حال زرع مواد في جسم المريض، نوعية تلك المواد التي استخدمها، على أن يقدّم تقريره إلى مركز خاص في المستشفى الذي يعمل لديه.
بدوره، ينشره المستشفى على موقع خاص للتعريف بإنجازات كل طبيب، يدعى: دكتور فوستر". أمّا عن الشكاوى التي يقدّمها المرضى للمستشفى، فيقول إنّها تمرّ بمراحل روتينية ويُصار إلى التداول بها في اجتماع للمعنيين بتلك الأمور. وإن أراد مقدّم الشكوى أن يرفع قضيته إلى المحاكم فبإمكانه ذلك، إن لم يقتنع بقرار المستشفى.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ خليل، تقدّم بشكوى رسمية أمام المستشفى وطالب بالتحقيق حول ما حدث مع والده. "على الرغم من نجاح عمليته الجراحية وتحسّن حاله، إلا أنّني أؤمن بأنّ تقديم شكوى هو أمر في غاية الأهميّة حتى لا يتعرّض مرضى آخرون للإهمال وتهدَّد حياتهم بالخطر، إن لم يكونوا على صداقة مع طبيب يتوسّط لهم. فوالدي كاد أن يفقد إبهامه لولا معرفتي بجرّاح".
قد يعتقد كثيرون أنّ الخطأ في تشخيص مرض أو التسبّب في وفاة إنسان بالإضافة إلى الإهمال وتدّني مستوى النظافة والرعاية الصحيّة، أمور لا تحدث في الدول المتطوّرة الراقية، لكنّ الواقع يكشف أنّ انعدام الرقابة أو غضّ النظر عن كثيرين أينما وجدوا وفي أيّ ميدان عمل، قد يؤدّي بهم إلى ارتكاب أخطاء عن قصد أو عن غير قصد، طالما أنّهم لن يحاسَبوا.