أحمد يماني.. في منتصف الحجرات

20 يوليو 2014
+ الخط -

يقسم أحمد يماني مجموعته الشعرية الخامسة "منتصف الحجرات" (دار ميريت، 2014) إلى قسمين يمثل كل منهما قصيدةً طويلةً من مقاطع: "وراء الباب" و"النائم الذي لم أره"، بحالتين شعوريتين تبدوان - للوهلة الأولى- مختلفتين كأنهما حجرتان متجاورتان، ثم ما نلبث أن نكتشف أن ما يجمع بينهما هو الحسرة على الغائب عاشقاً كان أو "نائما"؛ فالقسم الأول يسرد عن العاشق الذي "يمنح نفسه طويلاً، وفي معظم الأحيان لا ينتظر شيئا في المقابل"، والثاني عن النائم الذي "أحياناً يبكي خطأ الطبيعة الممتدّ لكنه لا يبكي ولا يبتسم حقيقة".

ثمة رغبة ملحّة في التأمّل دون تورطٍ في الاشتباك، فالحجرة ملاذ آمن للتداعي وسرد الصور، لكن الشاعر يكتشف في هذه السردية تورطاً أكثر إيلاماً: إنه استدعاء لماضٍ ما زال فاعلاً في وجدانه، غير أنه لا يهرب منه، بل يبقى في منتصف حجرته على مسافة واحدة منه ومن كل شيء، وحيث يكون العالم ممثَّلاً بشكل غائم في الكتب والسرير والنافذة المطلة على ما يجهل. إذن، في هذه الحالة ليس على الشاعر سوى أن يتمدد. "أنت في منتصف حجرة وفي منتصف الحجرات ليس على المرء سوى أن يتمدد واضعاً طوبةً تحت رأسه".

عنوان القسم الأول "وراء الباب" يعطي مفتاحاً للقراءة مثلما يحتاج الباب إلى مفتاح، يدخل القارئ إلى الغرفة ليجد تفاصيلها/مقاطعها مبعثرة كأنها خرجت من عاصفة. نمشي معه من الباب إلى المنتصف لنلمس خواطره وهي تتشكل دون زمن محدد. ربما داهمته الفجيعة ليتحرّك من سكونه بعد أن أصبح جزءاً من موجودات الحجرة، لكنه يتذكر "خيبة الأجساد المتحرّكة" فيبقى مكانه إذ "يمكنه بالكاد أن ينسى".

في "وراء الباب" المسافة تمنح فرصة للنظر، والعزلة صيّادة لما يشرد في الزحمة، غير أن الإنهاك الناتج عنهما لا يعطي فرصةً للمجاز، فاللغة مخادعة أحيانا في التقاط الشعور، خاصة وأن "الألم هو مجرد ألم/ مهما تضخم أو امتد فلن يكون له اسم آخر".

لعبة الشاعر هنا ليست في اللغة، بل يبثها في الضمائر؛ فضمير المتكلم يصطاد اللحظات الشاردة ويستحضر لهوها "أطرق الباب ولا تفتحينه ولا تسألين من الطارق، ثم تطرقينه أنت ولا أفتحه ولا أسأل من الطارق". في حين أن ضمير الغائب يخوض معارك "ترسيم الحدود" بين ما عليه العاشق وما يجب أن يكونه.

في "النائم الذي لم أره" -القصيدة الأقل حجماً- تغيب ذات الشاعر إلى غيره، ذلك النائم الذي تحوّل إلى هاجس يزاحمه حجرته تارة، وتارة في أجساد الذين يلتقيهم، حتى استسلم طيعاً إلى حضوره، بل وصار يمنحه من عطايا الحياة التي تأتيه: "كل امرأة جديدة عرفتها تركتُ له ليلة معها، يتشربها وحده. تفتح المرأة عينيها وتقول لي: عيناك هذه الليلة أوسع من المعتاد، إن يديك… يديك… لا أعرف كيف أشرح لك الأمر. أبتسم فقط وأترك له أن ينصب شركه ويوقع بهنّ وفي الصباح يعود ثانية إلى البيت".

لكن هل تغيب ذات الشاعر حقا؟ أم هي حيلة أخرى للإمساك بذلك النائم والتقاط أنفاسه من جسد آخر قبل أن يسدّ كل منافذ الهواء؟ بعد قراءة متأنية يمكن التقاط روح الشاعر الراحل أسامة الدناصوري المهيمنة على القصيدة، بسخريته وشاعريته الخاصة، ويبدو أن جرح غيابه لم يفارق "يماني" حتى حوله إلى قصيدة يقول له فيها مالم يقله قبل رحيله.



مقاطع من "وراء الباب"

يعلمها الكلمات الغريبة
وكل كلمة تضعها تحت لسانها ولا تطلقها إلا مبتلة
بأيام بعيدة لم يرها فيها
يؤلمه نطقها للكلمات الغريبة
والألم في موضع لم يتمكن أبدا من تحديده
في الحديقة يقرأ كفها الصغير
وتشهق مع كل تفصيلة يعرفها عنها قبل أن يراها
يدها سرب نمل لا يتوقف عن الدوران
وهو يجمع الفتات التي تتساقط منها ويضعها بجانب الحائط
ويعود لمسح يديها بزيوت اخترعها اختراعا لتناسب مسامها المفتوحة
تأتي إلى غرفه الضيقة وعن كل واحدة تقول إنها الأجمل بين الغرف
وينحشران سويا في منتصف السرير.


تحدثه عن ذراعها الذي أصبح له وعن قدمه التي تسير بها أحيانا
في حدائق واسعة باحثة فيها عن أشياء سقطت منها في أيام متعاقبة
تكتب آلامها العجيبة في ورقة وتتركها للرجل العجوز الذي يرتب حياتها
مقابل حفنة أسبوعية من المال
وما إن يعميها الشك حتى تصرخ كقريبنا العائد من الحرب بقدمين متورمتين
روحها عملة معدنية سقطت على الأرض ولا تكف عن الرنين
أرادت أن تموت معه، أن ينحشرا في السرير ولا يصحوان بتاتا
لكن الرنين لم يتوقف وخرجت صباحا إلى العمل
كان يغني لها بصوت رخيم استعاره من جده البعيد
الصوت مقلاة زيت تغلي على خديها
وصوته يسحبها من رأسها إلى بلد غريب
تسير فيه مطمئنة
بين أناس لا يصلون إلى عينيها المحمرتين دوما
عادت إليه من القرية
حاملة معها أقراصا من الشمع تذيبها على فخذيها ولا تتأوه.


*

كان مستوى الأرض يعلو ويهبط ويحملنا معه فنرى شاشة عملاقة ممتدة أمامنا، يرى كل واحد فيها أباه وأمه وحفنة أصدقاء وأقارب في أوضاع مختلفة، ثم يهبط مستوى الأرض تدريجيا ولا نعود نلمح الشاشة. في هبوطنا يمتد أمام أنوفنا حائط من الطين تنبت فيه بعض الأعشاب، تنقبض قلوبنا ومن جديد يعلو مستوى الأرض، نعود إلى الشاشة ويتغير قاطنوها. فجأة نلمح على يميننا سردابا صاعدا إلى الأعلى، نتشبث به ونتذكر في كل لحظة أرضيته الإسمنتية والغبار الخفيف الذي تثيره خطواتنا وأقدامنا الثقيلة الهاربة لتوها.


*

بيت أزرق
هو آخر ما تراه عينيّ من النافذة،
بعده لا شيء.
يلوح لي غائما
والحياة داخله أبدا لن أعرفها
لكن الكتلة الزرقاء
تغلف عينيّ يوميا
كأن حياتي تقبع هناك
كأنني أصحو في البيت نفسه
على وقع أقدامك الذاهبة إلى العمل.

*

بالكثير من الدخان وبغضب يقصم الظهر تنافسنا على إغلاق الباب، كل من جهته، على تحويل حياتنا معا إلى قطعة خشب في أقل من ثانية، قلنا لها، كل في سره، أن تبحر بعيدا، أن يأخذها تيار جارف. لم يكن من المستغرب أبدا أن تئن قطعة الخشب بين أيدينا وهي تشهد خيبة الأجساد المتحركة.


*

عندما تحاول في منتصف حجرة أن تترنم بأغنية بعيدة، أن تنفخ النغمة لتطير إليها لكن الوهن لا يدفعها أكثر من سنتيمترات خارج الحجرة، أن تلضم جسرا من الكلمات تنطلق بقوتها الذاتية لتصل إلى شباكها فتسقط في منتصف الطريق، فكر أنك في منتصف حجرة وأنه ليس عليك أن تترنم أو تلضم أي شيء، فأنت في منتصف حجرة وفي منتصف الحجرات ليس على المرء سوى أن يتمدد واضعا طوبة تحت رأسه وفي ملابسه البيضاء المشدودة بإحكام على عظامه يمكنه بالكاد أن ينسى.

المساهمون