أحمد فؤاد نجم يحكي عن سنوات الملاحم والنوازل (2/2)

08 اغسطس 2019
+ الخط -



المهم إن سنة 1968 كانت سنة الإنتشار العلني أو الشرعي من خلال أجهزة الإعلام الرسميه اللي فتحت لنا الأبواب بعد ما قرروا يعملوا لنا فترة اختبار نوايا أو على رأي زميلنا الرسام والطبال التلقائي محمد علي اللي قال ـ دول بيعملوا لنا جسّ نفط ـ وكانت النتيجه زي ما توقعت. انتشرنا بشكل سريع وكنت أنا أسعد الناس بهذه النتيجه لأنها حققت لي رغبتين.. الأولى رغبة التحقق والشهره والتانيه رغبة الأمان من البطش اللي كنت باتوقعه بين لحظه وأخرى. كنت فاكر إن مجرد الناس ما يعرفونا حتبقى دي هي عباية الحمايه اللي حنستخبى جواها من بطش السلطان. أتاريهم لا بيهمهم ناس ولا بتحوشهم عبايه وجت سنة 1969 اللي هي سنة النوازل الهائلة عشان تأكد لي سوء تقديري وفساد تدبيري. وقلعت الحكومه بُرقُع الحيا وقررت اللجوء الفوري للأسلوب السحري اللي أثبت نجاحه الباهر مع كل القوى الوطنيه من سنة 1952 وحتى سنة 1969 اللي هو أسلوب القمع! 

وكانت قضية المخدرات هي أول الغيث والحقيقه إن قضية المخدرات دي اشتملت على مجموعه من الطرائف تنفع فيلم هندي أو مسلسل تليفزيوني ميلودرامي من النوع البوليسي بالغ الإثاره. فمثلاً كان رقم المحضر واحد حصر الدرب الأحمر لسنة 1969 يعني أول استفتاح! 

ولما صدر أمر التلفيق لمكتب مكافحة مخدرات العاصمه من السيد نائب رئيس الوزراء ووزير الداخليه وأمين التنظيم المرحوم شعراوي جمعه كانت قيادات هذا المكتب مكونة من ثلاث ضباط عظام وهم اللواء علي الألفي واللواء صلاح شحاته والعميد عبد الفتاح نجم وهو إبن عمي شقيقي وصديق الطفولة والصبا والشباب! وعشان كده منحوه يوم أجازه لعدم الإحراج. والبركه في الموجودين

وفي مطبخ العمليات سبكوا لنا طبخه ظريفه محندقه عبارة عن قضية إتجار في المخدرات وإعداد مكان للتعاطي! حاجه يعني تستاهل بُقّك. والمعروف إن براءة التهمتين دول هي الأشغال الشاقه المؤبده ودا اللي كانوا بيسموه شد ودن! وطبعا كلّفوا ترزية التلفيق والتزوير بتفصيل السيناريو المطلوب وفي وقت قياسي تم إنجاز عدد إتنين سيناريو واحد للنشر وواحد للضبط. أما سيناريو النشر فكان عباره عن مجموعه من مفردات أحمد سعيد في صوت العرب وهيكل في الأهرام وموسى صبري في الأخبار بتقول للناس إن الإتنين دول اتضح إنهم تجار مخدرات على مستوى ولهم اتصالات بالعدو الصهيوني وإن الأغاني والقصايد اللي كانوا بيرددوها لم تكن إلا ستار لإخفاء نشاطهم الإجرامي ولكن عين الأمن الساهره على حماية الوطن والمواطن تمكنت من رصدهم وضبطهم متلبسين لتقدمهم للعداله حتى تقتص منهم ليكونوا عبرة لأمثالهم من المخربين أعداء الوطن وعملاء الامبرياليه وأذناب الإستعمار! 

نيجي بقى سعادتك لسيناريو الضبط اللي حيتقدم للنيابه العامه فنلاقيه نُكته بكل المقاييس.. ويبدو والله أعلم إنهم بعتوا الإسمين ـ أحمد فؤاد نجم متهم أول وإمام محمد عيسى متهم تاني ـ للأخ السيناريست الترزي وقالوا له آدي المقاسات واتفضل اشتغل والظاهر إنه كان عامل دماغ على سنجة عشره فراح فاقع حته أمريكاني كاوبوي إنما آخر منجهه! 



قال لك يا سيدي نما إلى علم اللواء فلان الفلاني أن المذكوران كانا يمارسان نشاطهما الإجرامي تحت ستار العمل السياسي فقام سيادته بوضع الخطه المحكمه وكلف العميد علّان الترتاني الذي شكل قوه بقيادة العقيد حسان اليماني للقبض على المتهمين متلبسين. وأثناء مداهمة الوكر تمكن المتهم الثاني إمام محمد عيسى من القفز من إحدى النوافذ وتسلق المواسير المؤديه إلى سطح المنزل وبعد مطارده مثيره شارك فيها الأهالي تمكنت القوه من القبض عليه على سطح المنزل الثالث المجاور للوكر! طيب بذمة النبي مش دمه خفيف؟ 

وقامت التجريده بالهجوم على منزل حوش آدم فلم تجد به أحد! 

كنا سهرانين في شارع المبتديان وآخر السهره روّح الشيخ إمام ومحمد علي على حوش آدم بينما اتجهت أنا إلى منزل خطيبتي في امبابه للبيات هناك 

وبعد أذان الفجر أيقظوني من نومي لأحد بالغرفه رهط من الضباط والمخبرين بقيادة اللواء علي الألفي رئيس إدارة المكافحه بالعاصمه! 

ـ خير اللهم اجعله خير؟ 

ـ عايزينك شويه

ـ فين؟ 

ـ في مديرية الأمن؟ 

ـ على بركة الله

وصلنا مديرية الأمن لقيت الشيخ إمام مقعدينه على كرسي في البوفيه وحواليه مجموعة من الضباط الشبان ما بيتكلموش والدهشه مرتسمه على ملامحهم بينما الشيخ إمام وشه أصفر من الرعب وشفايفه بيضه ونازل ورّ زي القطط.. بيقرا قرآن.. ميِّلت على ودنه وقلت له

ـ تلاقيك زمانك ختمت المصحف

إتنتر في قعدته والدمويه ردت في وشه وقال لي

ـ إنت جيت؟ 

قلت له

ـ وراك وراك

وبدأت ابتسامته الطفله تبان على ملامحه..بس على خفيف

قلت له

ـ معاك حاجه؟ 

قال لي 

ـ حته تيجي نص قرش

قلت له

ـ طب إظرف

قال لي 

ـ ما خدوها 

قلت له

ـ قدام النيابه إنت ما كانش معاك حاجه.. فاهم؟ 

قال لي 

ـ يعني أكذب

وانفجرت بالضحك

وفوجئ الضباط الشبان بالشيخ إمام يضحك بصوت عالي فانفجروا ضاحكين. شميت ريحة المؤامره من خلال كل شيء في المكان وأكاد أكون شبح عبد الناصر في عيون الضباط الشبان! كلهم كانوا مش فاهمين حاجه وبمرور الوقت وصلني من خلال تصرفاتهم معانا إنهم مش موافقين ع اللي بيحصل لنا أو مش مقتنعين بيه. وحاولت أستعيد صورة جمال عبد الناصر وهو في سنهم لأني حبيته وآمنت بيه وهو في السن ده.. لكن يا خساره دوام الحال من المحال

وفي مكتب اللوا علي الألفي قعدنا وبعت الراجل جاب لينا سندوتشات شامي فول وطعميه وشاي بحليب لكن الشيخ إمام رفض ياكل بإباء وشمم ولما حاولت أفهمه إن الراجل عمل كده بمبادره شخصيه منه وإنه عازمنا على حسابه قال لي

ـ ما تتعبش نفسك.. مش ح آكل يعني مش ح آكل

قلت له 

ـ يعني هو الراجل حاطط لنا سم في الأكل

قال لي 

ـ ما تستكرش الرفص ع البغل النجس

ضحكت وقلت له 

ـ أنا فداك يا صاحبي 

وقمت أنا بالواجب بالنسبه للسندوتشات والاتنين شاي بالحليب 

وفجأه خرج اللوا علي الألفي من الأوضه وسابنا وبعد حوالي خمس دقايق بعت لي مخبر رحت له لقيته واقف لوحده في مكتب تاني.. ما قال ليش اقعد وصرف المخبر وفجأه إداني ضهره وشاور لي على مكتب لقيت عليه كور سلوفان حمرا وخضرا وزرقا وقال لي

ـ الحشيش دا بتاعك يا احمد؟ 

قلت له

ـ ياريت 

قال لي بصوت مرتبك

ـ أنا ما باهزرش.. الحشيش دا بتاعك؟ 

قلت له 

ـ آه.. ليه؟ 

حسيت إنه اتلدغ وقال لي بصوت مرعوش

ـ إنت بتهزر! 

قلت له

ـ إنت بتسألني جد ولا هزار؟ 

قال لي 

ـ أنا باسأل جد طبعا

قلت له

ـ خلاص.. يبقى أنا باجاوب جد

وحسيت بارتباكه فتره قطعها بسؤالي 

ـ أحرزته بقصد التعاطي ولا الإتجار؟ 

ضحكت لأول مره وقلت له 

ـ تعاطي إزاي؟ وهو معقول أنا ح اشرب دا كله لوحدي.. طبعا باتاجر فيه

ولأول مره تيجي عينه في عينيا وصرخ في وشي 

ـ الحشيش دا مجلوب من إسرائيل يا بني آدم

ووصلتني رسالة التحذير وحسيت تجاهه بالإشفاق وتملكتني رغبه عارمه في احتضانه وحبيت أطمنه إني واعي للي بيتدبر فقلت له بهدوء

ـ أنا عارف طبعا إنه مجلوب من إسرائيل لكن زي ما انت عارف سيادتك إن حدودنا مع إسرائيل أصبحت قناة السويس ولا يخفاك إن كل ضفه عليها جيش شاهر المدافع والصواريخ ومصوبها على الضفه التانيه وما اعتقدش إن فيه مواسير تحت القناه ممكن يمر منها الحشيش وأنا خدمه لوجه الله والوطن ح اقولك الحشيش بيدخل منين

الراجل بدأ يبص لي باعتباري لاسع وارتسمت على ملامحه ابتسامه مالهاش أي معنى.. فكملت

ـ الحشيش يا سيدي الفاضل يدخل من بحر اسكندريه والمعلم بيسلمنا البضاعه في طنطا وشيللاه يا شيخ العرب يا سيد

الراجل قال لي وكأنه بيكلم نفسه

ـ مين المعلم بتاعكوا

قلت له

ـ الليثي بيه

قال لي 

ـ مين الليثي بيه؟ 

قلت له 

الليثي بيه عبد الناصر 

صرخ

ـ يخرب بيتك وبيت أهلك يا مجنون يا بن المجنونه

قلت له

ـ إستنى بس أمّا أكمل لك.. أنا باوزع في منطقة بحري والست أم كلثوم بتوزع في منطقة قبلي والسيد أبو شفه بيوزع في اسكندريه وعلي أبو دراع..

ولسه ح اكمل الراجل جرى على باب الأوضه قفله وقال لي بصوت واطي 

ـ إنت عايز تودي نفسك في داهيه

 قلت له 

ـ تاني! 

أما اللوا صلاح شحاته فكان دوره هامشي وتافه.. الباشا كان مكلف يعمل لي أنا والشيخ إمام كل واحد ـ ملف خطر! ـ وأثناء الإجراءات حاولت أصطاد عنيه ما ادانيش فرصه

اللي هزني بشده موقف قطب المخبر الخصوصي لعبد الفتاح ابن عمي.. ساعة ما شافني انفجر في البكا بصوت مكتوم وهمس في ودني ما تخافش يا بيه أنا ح اروح أبلغ عبد الفتاح بيه فوراً وطلع من جيبه تلاته جنيه حطهم لي في جيب القميص وخرج يجري على عبد الفتاح بيه. ما أعرفش فين؟



(أحمد فؤاد نجم مع الشيخ إمام)

 ***********

يوم الإثنين القادم: أحمد فؤاد نجم يحكي عن حواديت القلعه. 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.