16 مايو 2017
أحمد الجلبي... البطل والخائن
بعد وفاة أحمد الجلبي، قبل أيام، كتب العراقي منير حداد مقالة بعنوان "أحمد هادي الجلبي… مرثية العراق محرراً"، اعتبر فيها الجلبي "حرّر شعباً، ووقف بوجه الطاغية، واستطاع استصدار قرار من أميركا بتحرير العراق". في الموقع الإخباري نفسه، وفي اليوم نفسه، نجد مقالة أخرى، كتبها العراقي سعد الكناني بعنوان "أيها الخونة… ملك الموت في طريقه إليكم"، يصف الجلبي فيها بأنه "أول خائن وسارق مسؤول ساهم في تدمير وخراب العراق"، وأنه "جاء بالاحتلال" الذي بسببه ترملت زوجات عراقيين كثيرين، وتيتم أبناؤهم، واحترقت قلوبهم.
نحن أمام موقفين متناقضين، أحدهما يعتبر الجلبي (بطلاً)، والآخر يعتبره (خائناً). هل سبب هذا التناقض أن أحد الكاتبين يعاني من وعي قومي أو وطني مزيّف؟ أم أن هذا التناقض ما هو إلا تعبير عن أزمة أعمق، تعكس خلافا حول الانتماء السياسي: هل نحن عراقيون شيعة فقط؟ أم نحن عراقيون عرب؟
لكل إنسان هويات متعددة، وهي تلعب دوراً مهماً في بناء الثقة، وتسهيل التواصل، وبناء علاقات الانتماء، والخصومة والولاء، وما إلى ذلك من قضايا. والهوية السياسيّة، بشكل خاص، تجيب، بشكل تلقائي وسهل، عن الأسئلة التالية: من العدو؟ من الصديق؟ من يستحق الثروة؟ من تمثّل الدولة؟ ولا تطرح الإجابات على هذه الأسئلة بشكل عقلاني، بل تطرح على شكل رموز وسرديات، يتم تكثيفها وإعادة إنتاجها، عبر شبكات ومؤسسات معقدة، تحيط بالفرد من كل ناحية، حتى تجعل من هويته أقرب إلى البداهة، بحيث أن مناقضتها لا تأتي إلا من مجنون أو مغرض ومتربص.
في عام 1991، وبعد هزيمة العراق في حرب الخليج، انتفضت المحافظات الجنوبية العراقية ضد نظام صدام حسين الذي أخمدها بشكل قاس وفظيع. سمى النظام تلك الحادثة "صفحة الغدر والخيانة"، واعتبرها مؤامرة إيرانية، حاولت استغلال ضعف العراق بعد الحرب، ومحاولة النيل منه بمكر شديد. أما المنتفضون الذين كانوا في غالبيتهم شيعة فقد مثلت الحادثة بالنسبة لهم ثورة شعبية عفوية ضد الظلم والجور، ولم تُفهم ردة الفعل القاسية والعنيفة من النظام إلا بوصفها استهدافا لهم، لأنهم شيعة. يكتب فنر حداد في كتابه "الطائفية في العراق" إن تلك الحادثة "مثلت نقطة تحوّل في العلاقات الطائفية والهوية الطائفية في العراق".
بعد تلك الحادثة، يمكن تتبع مسارين، قادا إلى تشكّل الهوية الشيعية السياسية في العراق. الأول داخلي، فقد ترك الحصار الاقتصادي وهبوط أسعار النفط والتضخم أثرهما على جهاز الدولة، حيث أصبحت أكثر ضعفاً وتهالكا. لجأت الدولة للتعويض عن فقدانها رأس مالها المعنوي بعد هزيمتها في الحرب، ورأس مالها المادي بسبب الحصار، إلى الدين. ازداد تديّن النظام، حيث كتبت "الله أكبر" على العلم، ودشنت "الحملة الإيمانية"، وازداد، على الرغم من الفقر، بناء المساجد. على المستوى الاجتماعي، تعاظم دور المؤسسات القبلية والدينية في سد المساحات التي انسحبت منها الدولة، وتضاءل دورها. وانعكست هذه المتغيرات بتأثيرها على الكيفية التي يعرّف الناس من خلالها أنفسهم، أصبحت الهويات المذهبية والقبلية مؤثرةً، بشكل مباشر، على حياة الفرد، وقدرته على تأمين الأمن والغذاء والدواء.
في المجال الشيعي، وبعد وفاة المرجع الخوئي، احتوى النظام مرجعاً عربياً، هو محمد محمد
صادق الصدر، الذي اغتنم المساحة الموجودة لنشر الأعمال والمؤسسات الخيرية وبناء الحسينيات. بين 1992-1999، استطاع الصدر أن يحقق شهرة عالية، وأن يستوعب الشيعة بأطيافهم كافة، بدويهم وحضريهم، غنيهم وفقيرهم، في رسالة تمزج بين الهوية الطائفية والوطنية، وتدعو للوحدة بين السنة والشيعة، لكنها بتأكيدها الهويّة الطائفية، وتكثيفها، وتوسيع مداها، قامت بتسييسها. في أواخر حياته، بدأ الصدر يتجه اتجاها نقدياً من النظام، الأمر الذي انتهى باغتياله، ليتحوّل شهيداً ورمزاً للشيعة العراقيين الذين باتت هويتهم مسيسة، وتحولت نظرتهم إلى النظام من كونه مستبداً إلى أشبه ما يكون بنظام أجنبي محتل.
صورة النظام محتلاً رافقتها صورة أخرى للنظام كأبارتهايد، روّجتها المعارضة الشيعية في الخارج، حيث استغلت أجواء نهاية الحرب الباردة، وسقوط نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، وتبني أميركا خطاب نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان. ففي عام 1991، كتب أحمد الجلبي مقالا في "فورين بوليسي" بعنوان "العراق: الماضي كاستهلال"، قدّم فيه للإدارة الأميركية مظلوميته، حيث صوّر نظام الحكم في العراق بأنه أقلية سنية تتحكم بالأكثرية الشيعية، عبر مؤسسة حزب البعث والجيش، وأن هذه الأكثرية تتطلع للديمقراطية.
مع مرور السنين، ترسّخت هذه الهويّة، وتحولت صورة العلاقة بين النظام وقطاع كبير من الشيعة في العراق من كونها علاقة مستبد بمواطنين إلى علاقة بين شعب وسلطة احتلال. في مثل هذه الحالة، يصبح كل من يساعد على التحرر من الاحتلال بطلاً، وكل قوّة تساعد في التحرير قوّة صديقة. عندما أصبح الاحتلال وشيكاً، كان هناك من الطائفيين من نظر إلى الاحتلال الأميركي باعتباره (أقل الضررين)، إذا ما قورن باحتلال نظام صدام. وفقط ضمن هذه السردية الطائفية، يمكن أن يكون أحمد الجلبي بطلا. فالبطولة والخيانة مرتبطة بمن يخدم الطائفة في العراق وبمن يضرّها، والموقف من الاحتلال هو موقف نفعي، يحكم عليه بما يعود على الطائفة من نفع أو ضرر. بل حتى أولئك الطائفيون الذين لا يعتبرون أحمد الجلبي بطلا، فسببهم هو فساده المالي، وليس مساهمته في جلب الاحتلال إلى العراق.
فقد العراق مئات آلاف القتلى بعد الاحتلال، ودخل في حرب أهلية فظيعة عامي 2006-2007، ثم حرب جديدة مع استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على مساحات شاسعة، من بينها ثاني أكبر مدينة عراقية. تناوبت على حكم العراق بعد الاحتلال حكومات فاسدة، فاشلة، تورطت في دماء العراقيين عبر المليشيات المتكاثرة التي تديرها، لكن هذا كله غير مهم للطائفي، وذلك لأنه عندما يقارن بين حاله بعد الاحتلال وقبله فهو لا يقارن بين نظامين وطنيين عراقيين، بل بين نظامين، محتل ووطني فاسد مليء بالمشكلات، لكنه وطني، أي شيعي.
من يقول إن أحمد الجلبي بطل ليس مغفلا، أو متعصبا، أو جاهلا. إنه ببساطة طائفي، يقيّم الأمور انطلاقا من ولاء وسرديّة مختلفة عن التي يقيّم بها العراقي العربي، أو العربي عموماً، ما حدث. بالنسبة للعرب، ساهم الجلبي باحتلال بلد عربي، إذن هو خائن، لكنه بالنسبة للطائفي الشيعي ساهم بتحريرهم من احتلال أيضا. نرى هذا التشظي في السردية جليّاً في سورية اليوم أيضا، حيث ساهم النظام المستبد في إيجاد حالة طائفية سنيّة تعامل المستبد محتلاً. وبالتالي، تبرّر التحالف مع أيّ كان، لتخليصها من هذا الاحتلال. ليست مشكلة الطائفية في أنها تترافق مع خطاب كراهية، ليس في أنها تترافق مع التعصّب الديني، وإنما في أنها تغيّر الولاءات والانتماءات، وتبدّل السرديات والذاكرة، وبالتالي، تنتج أحكاما مختلفة وغريبةـ كأن يكون عميل الاحتلال بطلا.
نحن أمام موقفين متناقضين، أحدهما يعتبر الجلبي (بطلاً)، والآخر يعتبره (خائناً). هل سبب هذا التناقض أن أحد الكاتبين يعاني من وعي قومي أو وطني مزيّف؟ أم أن هذا التناقض ما هو إلا تعبير عن أزمة أعمق، تعكس خلافا حول الانتماء السياسي: هل نحن عراقيون شيعة فقط؟ أم نحن عراقيون عرب؟
لكل إنسان هويات متعددة، وهي تلعب دوراً مهماً في بناء الثقة، وتسهيل التواصل، وبناء علاقات الانتماء، والخصومة والولاء، وما إلى ذلك من قضايا. والهوية السياسيّة، بشكل خاص، تجيب، بشكل تلقائي وسهل، عن الأسئلة التالية: من العدو؟ من الصديق؟ من يستحق الثروة؟ من تمثّل الدولة؟ ولا تطرح الإجابات على هذه الأسئلة بشكل عقلاني، بل تطرح على شكل رموز وسرديات، يتم تكثيفها وإعادة إنتاجها، عبر شبكات ومؤسسات معقدة، تحيط بالفرد من كل ناحية، حتى تجعل من هويته أقرب إلى البداهة، بحيث أن مناقضتها لا تأتي إلا من مجنون أو مغرض ومتربص.
في عام 1991، وبعد هزيمة العراق في حرب الخليج، انتفضت المحافظات الجنوبية العراقية ضد نظام صدام حسين الذي أخمدها بشكل قاس وفظيع. سمى النظام تلك الحادثة "صفحة الغدر والخيانة"، واعتبرها مؤامرة إيرانية، حاولت استغلال ضعف العراق بعد الحرب، ومحاولة النيل منه بمكر شديد. أما المنتفضون الذين كانوا في غالبيتهم شيعة فقد مثلت الحادثة بالنسبة لهم ثورة شعبية عفوية ضد الظلم والجور، ولم تُفهم ردة الفعل القاسية والعنيفة من النظام إلا بوصفها استهدافا لهم، لأنهم شيعة. يكتب فنر حداد في كتابه "الطائفية في العراق" إن تلك الحادثة "مثلت نقطة تحوّل في العلاقات الطائفية والهوية الطائفية في العراق".
بعد تلك الحادثة، يمكن تتبع مسارين، قادا إلى تشكّل الهوية الشيعية السياسية في العراق. الأول داخلي، فقد ترك الحصار الاقتصادي وهبوط أسعار النفط والتضخم أثرهما على جهاز الدولة، حيث أصبحت أكثر ضعفاً وتهالكا. لجأت الدولة للتعويض عن فقدانها رأس مالها المعنوي بعد هزيمتها في الحرب، ورأس مالها المادي بسبب الحصار، إلى الدين. ازداد تديّن النظام، حيث كتبت "الله أكبر" على العلم، ودشنت "الحملة الإيمانية"، وازداد، على الرغم من الفقر، بناء المساجد. على المستوى الاجتماعي، تعاظم دور المؤسسات القبلية والدينية في سد المساحات التي انسحبت منها الدولة، وتضاءل دورها. وانعكست هذه المتغيرات بتأثيرها على الكيفية التي يعرّف الناس من خلالها أنفسهم، أصبحت الهويات المذهبية والقبلية مؤثرةً، بشكل مباشر، على حياة الفرد، وقدرته على تأمين الأمن والغذاء والدواء.
في المجال الشيعي، وبعد وفاة المرجع الخوئي، احتوى النظام مرجعاً عربياً، هو محمد محمد
صورة النظام محتلاً رافقتها صورة أخرى للنظام كأبارتهايد، روّجتها المعارضة الشيعية في الخارج، حيث استغلت أجواء نهاية الحرب الباردة، وسقوط نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، وتبني أميركا خطاب نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان. ففي عام 1991، كتب أحمد الجلبي مقالا في "فورين بوليسي" بعنوان "العراق: الماضي كاستهلال"، قدّم فيه للإدارة الأميركية مظلوميته، حيث صوّر نظام الحكم في العراق بأنه أقلية سنية تتحكم بالأكثرية الشيعية، عبر مؤسسة حزب البعث والجيش، وأن هذه الأكثرية تتطلع للديمقراطية.
مع مرور السنين، ترسّخت هذه الهويّة، وتحولت صورة العلاقة بين النظام وقطاع كبير من الشيعة في العراق من كونها علاقة مستبد بمواطنين إلى علاقة بين شعب وسلطة احتلال. في مثل هذه الحالة، يصبح كل من يساعد على التحرر من الاحتلال بطلاً، وكل قوّة تساعد في التحرير قوّة صديقة. عندما أصبح الاحتلال وشيكاً، كان هناك من الطائفيين من نظر إلى الاحتلال الأميركي باعتباره (أقل الضررين)، إذا ما قورن باحتلال نظام صدام. وفقط ضمن هذه السردية الطائفية، يمكن أن يكون أحمد الجلبي بطلا. فالبطولة والخيانة مرتبطة بمن يخدم الطائفة في العراق وبمن يضرّها، والموقف من الاحتلال هو موقف نفعي، يحكم عليه بما يعود على الطائفة من نفع أو ضرر. بل حتى أولئك الطائفيون الذين لا يعتبرون أحمد الجلبي بطلا، فسببهم هو فساده المالي، وليس مساهمته في جلب الاحتلال إلى العراق.
فقد العراق مئات آلاف القتلى بعد الاحتلال، ودخل في حرب أهلية فظيعة عامي 2006-2007، ثم حرب جديدة مع استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على مساحات شاسعة، من بينها ثاني أكبر مدينة عراقية. تناوبت على حكم العراق بعد الاحتلال حكومات فاسدة، فاشلة، تورطت في دماء العراقيين عبر المليشيات المتكاثرة التي تديرها، لكن هذا كله غير مهم للطائفي، وذلك لأنه عندما يقارن بين حاله بعد الاحتلال وقبله فهو لا يقارن بين نظامين وطنيين عراقيين، بل بين نظامين، محتل ووطني فاسد مليء بالمشكلات، لكنه وطني، أي شيعي.
من يقول إن أحمد الجلبي بطل ليس مغفلا، أو متعصبا، أو جاهلا. إنه ببساطة طائفي، يقيّم الأمور انطلاقا من ولاء وسرديّة مختلفة عن التي يقيّم بها العراقي العربي، أو العربي عموماً، ما حدث. بالنسبة للعرب، ساهم الجلبي باحتلال بلد عربي، إذن هو خائن، لكنه بالنسبة للطائفي الشيعي ساهم بتحريرهم من احتلال أيضا. نرى هذا التشظي في السردية جليّاً في سورية اليوم أيضا، حيث ساهم النظام المستبد في إيجاد حالة طائفية سنيّة تعامل المستبد محتلاً. وبالتالي، تبرّر التحالف مع أيّ كان، لتخليصها من هذا الاحتلال. ليست مشكلة الطائفية في أنها تترافق مع خطاب كراهية، ليس في أنها تترافق مع التعصّب الديني، وإنما في أنها تغيّر الولاءات والانتماءات، وتبدّل السرديات والذاكرة، وبالتالي، تنتج أحكاما مختلفة وغريبةـ كأن يكون عميل الاحتلال بطلا.