وتأتي إشارة رئيس الحكومة، الحبيب الصيد، إلى أنّ الإرهابيين كانوا ينوون "إقامة إمارة داعشية في مدينة بنقردان"، لتفتح مجال التحليل الاستراتيجي، نظراً إلى موقع المدينة على الحدود بين تونس وليبيا. كلام الصيد لم يكن مجرَّد استنتاجات مستعجلة للعملية، بل كان مبنياً على معلومات موثوقة حصلت عليها السلطات التونسية بعد استنطاق الموقوفين السبعة من الإرهابيين، ومعطيات استخباراتية، بحسب تأكيدات المتحدث باسم الحكومة التونسية، خالد شوكات، أخيراً.
وعلى الرغم من أن بعض الخبراء التونسيين يؤكدون أنّ الأسلحة التي كانت بحوزة المسلحين لم تكن لتمكّنهم من ذلك، بسبب غياب أسلحة ثقيلة تصمد في وجه ترسانة الجيش التونسي، يشير مراقبون إلى أنّ الهدف كان الاستيلاء على المدينة، وإرباك السلطات التونسية، اعتماداً على نظرية اتساع "بقعة الزيت" التي سبق أن اعتمدها التنظيم في أماكن أخرى كالعراق وسورية. وتتمثل هذه النظرية في حيازة بقعة جغرافية صغيرة والتوسع تدريجياً، انطلاقاً منها.
وكادت أن تشكّل بنقردان، لو نجحت العملية، بحسب هؤلاء المراقبين، ملاذاً قريباً للهاربين من ليبيا، إذا ما انطلقت الضربات العسكرية الدولية وضاق الخناق عليهم هناك. وتكشف عملية بنقردان أنّ الأسلحة التي استُعملت، وحجز كميات كبيرة منها، تم إدخالها وتخزينها على مراحل في المدينة ومحيطها، وجاء أغلبها من ليبيا. وسبق أن تم اكتشاف مخابئ أخرى للأسلحة في الجنوب التونسي، منذ سنوات. وهو ما يعني، بحسب خبراء أمنيين، أن العملية لم تكن مرتجلة، بل تم الإعداد لها منذ مدة. كما أنها تسارعت عقب ضرب تنظيم داعش في ليبيا، واقتراب ساعة الحسم، في ظلّ الحديث عن تدخل عسكري دولي مرتقب في البلاد.
ويشير عدد من الخبراء الأمنيين إلى أنّ معرفة الإرهابيين الدقيقة بالمدينة، يرجّح أن يكون عدد منهم من أبنائها، بالإضافة إلى التنسيق مع بعض المهرّبين في الجهة. وهذا ما كشفه الصيد، أمس الأول الثلاثاء، عندما قال، إنّ "حوالي 50 إرهابياً قاموا بالعملية، أغلبهم من التونسيين". ويشدّد هؤلاء الخبراء على الخطر القائم، كون أغلبهم من التونسيين، وهو ما يرفع من احتمال القيام بضربات انتقامية مقبلة، واستفاق الخلايا النائمة. ويشير الخبراء الأمنيون أنفسهم إلى أن الهزيمة المدوية للتنظيم في عملية بنقردان، وإفشال مخططهم، واقتناعهم أن فكرة السيطرة على موقع قدم في تونس غير ممكنة، بعد تبيّن الجاهزية العالية للجيش والأمن التونسيين، قد يدفعهم للعودة إلى استراتيجية الضربات الخاطفة، التي حققوا فيها نجاحات سابقة في باردو وسوسة، ووسط العاصمة تونس (حادث الأمن الرئاسي).
سياسياً، تبدو انعكاسات عملية بنقردان في غاية الأهمية، إذ أتاح التنظيم مجدداً ذريعة جديدة لتغييرات مهمة ممكنة، لعلها جاءت أساساً لتخدم وتمهّد لتغيير المعطيات. وربما تستهدف هذه العملية، بحسب مراقبين، تليين الموقف التونسي الرافض للتدخل العسكري في ليبيا. وكان عدد من الدبلوماسيين الغربيين عبّروا عن امتعاضهم من رفض كل من تونس والجزائر فكرة التدخل، وتشبثهما بذلك. وقد تدفع عملية بنقردان تونس إلى إعادة التفكير في هذا التدخل.
وكانت الضربات الأميركية الأخيرة ضد التنظيم في صبراتة (شمال غرب ليبيا) تدفع بدورها في هذا الاتجاه، بعدما تم القضاء على عدد كبير من التونسيين المنتمين إلى "داعش" فيها. وهو ما يعني، بحسب بعض المراقبين، أن الضربات على ليبيا ستكون مفيدة لتونس، وتقيها من عمليات مماثلة. لكن ردّ رئيس الحكومة التونسية كان واضحاً خلال الندوة الصحافية التي عقدها، الثلاثاء، حين أشار بوضوح إلى أن القرار التونسي سيبقى مستقلاً، "وتونس لن تقبل بوجود قوات أجنبية على أراضيها". ويطرح الإصرار الدولي على إقحام تونس في المعركة الليبية، التساؤل حول مدى قدرة تونس على الاستمرار في الصمود بهذا الموقف.
اقرأ أيضاً رسائل حرب بنقردان ودروسها: نجاح لا يلغي التهديد الداخلي
من جهة أخرى، حاولت حكومة طبرق الليبية استغلال الموقف لصالحها، وبنت على استنتاجات متسرّعة لكلمة الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، يوم الحادثة، حين أشار إلى "تسلل السلاح والإرهابيين من ليبيا بسبب حالة الفوضى فيها". وأصدرت الحكومة بياناً تؤكد فيه، أنّ "الإرهابيين تونسيون وأجانب يضربون في ليبيا ويقتلون أبناءها". وأضاف البيان، أنّ "عدم تعامل السلطات التونسية مع الشرعية في ليبيا (حكومة طبرق)، ومحافظتها على صلات مع من يموّل ويتبنّى الجماعات الإرهابية (حكومة طرابلس)، هو ما أدى إلى انتشار هذه الجماعات". وأشار البيان إلى أن هؤلاء الإرهابيين "لا يمثلون إلا أنفسهم والشعب التونسي منهم برّاء". وجددت حكومة طبرق دعوتها لكل جيران ليبيا ودول العالم للتعاون معها ضد الإرهاب وضرورة القضاء عليه، وعدم الانكفاء وراء الحدود.
ويأتي هذا البيان بمثابة تأكيد جديد من حكومة طبرق على رفضها للتعطيل الذي أقره الرئيس التونسي في السياسة الليبية، عندما أعلن الحياد بين المتنافسين، والتعامل مع كل الأطراف دون انحياز، واعتبار الخلاف الليبي مسألة داخلية. كما أشار السبسي إلى أنّ مصالح تونس تقتضي التعامل مع حكومة طرابلس أيضاً، حيث يعمل ويقيم معظم التونسيين. ويرى مراقبون أنّ حكومة طبرق تريد من خلال هذا البيان، أن تقدم نفسها على أنّها الطرف الليبي الوحيد الذي يقاوم المجموعات الإرهابية.
وفي سياق متصل، أعلن البيت الأبيض، أخيراً، أن الجيش الأميركي مستعد لتوجيه ضربات جديدة إلى أهداف تابعة للإرهابيين في ليبيا، في حال اقتضت الضرورة ذلك. وبيّن المتحدث باسم البيت الأبيض، جوش أرنست أنه لن يتحدث بشكل مفصّل عن التوصيات التي يتلقاها القائد العام من القيادة العسكرية. وذكّر أن الجيش الأميركي وجّه، أخيراً، ضربتَين كبيرتَين إلى أراضي ليبيا، استهدف فيها قادة بارزين في تنظيم داعش. وأضاف أرنست أنّ الرئيس الأميركي، باراك أوباما يوافق على توجيه مثل هذه الضربات "بلا تردد". وبحسب المعلومات الصحافية، فإن تصريحات أرنست جاءت بعدما طلب منه الصحافيون التعليق على ما تناقلته صحيفة "نيويورك تايمز" حول خطة وضعتها وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) لإجراء عملية أميركية متكاملة ضد إرهابيي "داعش" في ليبيا.
على صعيد آخر، أعرب كل من الرئيس الفرنسي، فرنسوا هولاند، ورئيس الحكومة الإيطالي، ماتيو رينزي، عن امتعاضهما من تأخر الموافقة على حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، مشدّدين على أن المجتمع الدولي سيبذل كل ما في وسعه لنيلها الثقة. وقال رينزي، خلال مؤتمر صحافي مشترك مع هولاند في ختام القمة الفرنسية، الإيطالية الـ33 في مدينة البندقية، أول أمس الثلاثاء، إنّه "على الرغم من الصعوبات، فإن المجتمع الدولي سيبذل كل ما في وسعه لتحصل الحكومة على الثقة. ويجب على الليبيين أن يعلموا أن الوقت المتاح أمامهم محدود".
من جانبه، قال الرئيس الفرنسي، إن بلاده تضغط مع الدول التي تملك نفوذاً على أطراف النزاع الليبي، مثل السعودية، لتسهيل التوصل إلى حلّ، مشيراً إلى تأثير الأزمة على تونس وأفريقيا، ويجب اعتماد نظرة شاملة في معالجة ذلك.
من جهتها، لفتت "قناة 218" التلفزيونية الليبية، إلى أنّ مصادر مطلعة أكدت أن لجنة الحوار السياسي الليبي الموقعة على اتفاق الصخيرات، دعت إلى عقد اجتماع في العاصمة التونسية، اليوم الخميس، لمناقشة فشل مجلس النواب في التصويت على منح الثقة لحكومة الوفاق الوطني. وأكدت المصادر ذاتها، أنّه من المتوقع خلال هذا الاجتماع استلام المذكرة التي وقعها 101 عضواً من مجلس النواب الداعمين لحكومة الوفاق، واعتبار المذكرة بمثابة منح للثقة لحكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج. فيما اعتبر رئيس مجلس نواب طبرق، عقيلة صالح في تصريح نشره الموقع الرسمي لمجلس النواب، الثلاثاء، أن منح الثقة لحكومة الوفاق الوطني خارج قبة المجلس يعتبر باطلاً.
اقرأ أيضاً النيران الليبية تضرب تونس: إحباط مخطط "ولاية بنقردان"