أجراس كوشنر وأذناب الحكومات في فلسطين
برعاية أميركية صهيونية ومشاركة عربية من السعودية، الإمارات، البحرين، مصر، الأردن والمغرب، عُقِدت ورشة المنامة في أواخرِ شهر حزيران المنصرم تحت عنوان "السلام من أجل الازدهار"، وكان حَريّاً بها أن تحمل عنوان: "الذلّ والعار من أجل الازدهار".
حيكت الخيوط الأولى للورشة في أميركا مع وصول دونالد ترامب إلى حكم البيت الأبيض مطلع عام 2016. ترامب المحسوب سياسياً على الحزب الجمهوري اليميني الأصولي، صاحب الأفكار المتشددة تجاه المهاجرين عموماً والمسلمين منهم خصوصاً، ومعلومٌ عن الحزب أنه واقعٌ تحت تأثير وضغط اللوبي اليهودي الصهيوني في أميركا كما أنه من خَدَمةِ الأجندة الصهيونية في السياسة الأميركية، فضلاً عن تنامي نفوذ اليمين المسيحي ومنه التيار المسيحي المتصهين في عهد الحزب الجمهوري.
سلسلة قرارات بدأتها إدارة ترامب: كان أولها نقل السفارة الأميركية إلى القدس، تبعها إيقاف التمويل الأميركي عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا"، ثم جاء قرار أغلاق مكتب السفارة الفلسطينية في واشنطن، وأخيراً إعطاء إسرائيل اعترافاً أميركياً بسيادتها على الجولان السوري.
تزامنت إجراءات ترامب مع انفتاح عربيٍ-إسرائيلي غير مسبوق في العلاقات الدبلوماسية وغيرها، وتنامي ظاهرة التطبيع مع الاحتلال في بعض البلدان العربية، أيضاً حققت الأحزاب اليمينية الأوربية المتملقة لإسرائيل تكفيراً عن ماضيها الأسود نجاحاً ملحوظاً داخل البرلمانات الأوربية على صعيد التمثيل السياسي.
يمثل المؤتمر الشق الاقتصادي لـ"صفقة القرن" ولمّا يكشف بعد عن الشق السياسي له. ويهدف إلى ضخ استثمارات بقيمة إجمالية تقدر بـ 50 مليار دولار على شكل منح وقروض مدعومة في فلسطين والأردن ومصر ولبنان.
في كتابه "العلمانية والحداثة والعولمة" الجزء الثاني يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري: "إن المرجعية النهائية قادرة على أن تحدد من هو العدو ومن هو الصديق. الصراع العربي الإسرائيلي على سبيل المثال، لو كانت مرجعيتنا اقتصادية مادية وليست قومية فإنه لا يوجد أي مسوغ للصراع مع المستوطنين الصهاينة فالمسألة هي مسألة الربح والخسارة، فأساس القبول والرفض هنا المرجعية النهائية الاقتصادية، أما إذا كانت مرجعيتنا النهائية عربية إسلامية فالمسألة جد مختلفة، فنحن نرى أن فلسطين جزء من تشكيل حضاري عربي له تراثه المشترك أو مصالحه المشتركة ويقوم على رقعة جغرافية محددة، وإذا كان له ماض مشترك، فنحن نحاول أن يكون له مستقبل مشترك أيضاً، وحيث إننا نؤمن بالإسلام ومهمتنا هي إقامة العدل في الأرض فإننا نرى أن ما وقع على الفلسطينيين ظلم بیّن، وإننا يجب أن ننصر أخانا ظالماً أو مظلوماً، في هذا الإطار تصبح إسرائيل جسماً غربياً غُرِس بقوة السلاح الغربي في قلب العالم العربي، وعلينا مقاومته لا اللحاق به".
إن المعايير التي تحكم علاقتنا مع إسرائيل كما يحددها المسيري رحمه الله ليست اقتصادية أو منفعية. وإنما هي معايير تعود إلى مرجعيةٍ عربية إسلامية، قائمة على أُسسٍ واضحة وثابتة: الاستقلال والسيادة العربية الفلسطينية على الأرض وعودة المهجرين إلى منازلهم.
مبتسماً؛ وقف أمام ثلّة من الحكومات العربية، عرّاب الصفقة ورائدها كوشنر، يُحدّث عن صفقته ورؤيتهِ بحُبور وإشراق. أنصت الحاضرون وشَخصَت أبصارهم إلى سيدهم خشية أن يَلْحَظهم منهمكين في أمرٍ آخر فتثور ثائرته عليهم، فيطردهم من رحمته لا من قاعتهِ. كان عزيزاً مشرَّفاً في دارهم، وكانوا ذليلين مهانين في ديارهِم.
قد تشتري أميركا وإسرائيل والدول الغربية الحكومات العربية وحتى بعض أفرادها، لكنها لن تستطيع شراء ضمائر وقلوب ملايين الأحرار ولن تملكهم بألاعيبها ونفاقها، فمن الحُمق والغباء التماس الحرية والخلاص من الشيطان ولا يفعل ذلك إلا كلّ جاهل أَخْرَق.
وقد أحسن الشاعر الراحل نزار قباني في قصيدة "الحب والبترول" وَصْفَ بعض الحكام والأمراء، اللاهين الخائنين لقضية إخوانهم، يقول:
تمرغ يا أمير النفط.. فوق وحول لذاتك
كممسحةٍ.. تمرغ في ضلالاتك
لكَ البترولُ.. فاعصرهُ على قدَمي خليلاتكْ
كهوفُ الليلِ في باريسَ.. قد قتلتْ مروءاتكْ
على أقدام مومسةٍ هناك.. دفنت ثاراتك
فبعت القدس.. بعت الله.. بعت رماد أمواتك
كأنَّ حرابَ إسرائيلَ لم تُجهضْ شقيقاتكْ
ولم تهدم منازلنا.. ولم تحرق مصاحفنا
ولا راياتُها ارتفعت على أشلاءِ راياتكْ
كأنَّ جميعَ من صُلبوا
على الأشجار.. في يافا.. وفي حيفا
وبئرَ السبعِ.. ليسوا من سُلالاتكْ
تغوصُ القدسُ في دمها
وأنتَ صريعُ شهواتكْ
تنامُ.. كأنّما المأساةُ ليستْ بعضَ مأساتكْ
متى تفهم ؟
متى يستيقظ الإنسان في ذاتك؟
فلسطين قضية كل عربي شريف نبيل، قضية كل إنسان لا يقبل الظلم والاستبداد والجَور، لا تتخلوْا عنها، ولا تقبلوا التطبيع والانفتاح؛ بل حاربوه وقاتلوه، ولا تحسبوهُ هيّناً وهو عند ضحاياه ثقيلٌ مرير.
لا تهوّنوا وترخّصوا دماء الآلاف ممن قضوا نحبهم مدافعين عن أرضهم، تذكروا آلام وأوجاع ملايين من المستضعفين في السجون والمعتقلات، في الملاجئ والمستشفيات، في المخيمات والطُرقات.
إن فلسطين وأخواتها امتحانٌ لضمير الإنسان فينا، من سقط وأخفق حلّت عليه لعنة التاريخ والأجيال، ومن ثبت وأخلص رُفِع ذكرُهُ في الأنام مع الشرفاء والصادقين.
يقول الطنطاوي رحمه الله: "لقد غزا ديار الشام من هم أكثر من اليهود عَدداً وأقوى جنداً وعُدداً، وأقاموا فيها دولاً عاشت دهراً، ثم دالت هذه الدول وعاد إلى الأرض أصحابها".