أتلك سمكةٌ في أذنك؟

21 ابريل 2015
+ الخط -
يقال إن الملك بطليموس استدعى إلى قصره سبعين مترجماً. انتبذ كلّ منهم حجرة مستقلة، غير عارف بما يدور في باقي الحجرات، ثم سئل كلٌّ منهم على حدة أن يكتب توراة موسى باللغة اليونانية. أملى الربُّ على قلوبهم النسخة نفسها (هي الترجمة "السبعونية" التي حطّت في مكتبة الإسكندرية). تطابقت تلك الترجمات كلها، لأن الأصل مقدّس ولا يتعدد. ليس هناك غير أصل واحد، إليه تُنسب أسطورة توراتية أخرى هي برج بابل. نعلم أن قصة هذا البرج تفترض لغة أصلية مفقودة، وكأن كلّ ما يقال ويكتب في كافّة ألسنة الأرض، ليس إلا ترجمة عن لغة مندثرة وتدويناً لصوتٍ منسي. وتفترض القصة كذلك أن تنوع اللغات أمر طارىء، نزل بالبشر عقاباً على خطاياهم.
بطرس البستاني، أحد مترجمي الكتاب المقدّس إلى اللغة العربية، أسّس دائرة المعارف التي ضمّت كذلك سليمان البستاني، وقد قام الأخير بتعريب الإلياذة شعراً موزوناً. تندر حالياً مصادفة مثل هذا التعريب الشعري الذي عرفت لغة الضاد أمثلة عديدة عنه. وقتاً طويلاً عُمل بمقولة الجاحظ "إن الشعر لا يستطاع أن يُترجَم ولا يجوز عليه النقل". يتمدّد الشعر المعرّب وتخسر كثافته رونقها، ويضيع الإيقاع، بينما الترجمان ظلّ مسجوناً في مرآة ومحكوماً بمن سيقف أمامها. تبقى الترجمة عملاً محيّراً، مأزقاً ملوناً، محكوماً بالنقصان والدونية، ولكن إحدى ضروراتها وإحدى متعها هي بالضبط أجنبيتها. تعدّدت الترجمات العربية لقصائد يانيس ريتسوس وكوستانتين كافافيس وسان جون بيرس وولت ويتمان، وكان لهؤلاء- تمثيلاً لا حصراً- دور في تغيير الشعر العربي، ودور في حداثته التي عدّت في إحدى مراحلها تلوثاً. اتُهم الشعر الحديث بالركاكة، وبأن شعراءه لا يجيدون لغتهم (الأم أو المتبناة)، ووُصموا بالتهافت والخروج عن القواعد والتشبّه بالشعر المترجم، وهذه التهمة الأخيرة ترجُم الشاعر بوصفه أجنبياً، زرايةً بمجمل الشعر الحديث، لأنه شوائب الرطانة في سبيكة الأصل. اتُهم المترجمون كذلك بدورهم السلبي في تفشّي الركاكة، ومع ذلك امتُدحت بعض الترجمات لأنها تبدو مكتوبة باللغة العربية، تكاد تضاهي الأصل في أناقة لغتها وسلاستها وطلاوتها وإلى آخر ما هناك من جاهز النعوت. قد يُسمّى المترجمون وسطاء وخونة وأشباحاً، لا يُرون ولا يُسمعون غالباً، وقد تغيب أسماؤهم عن أغلفة الكتب التي يفنون في تعريبها شهوراً. ليسوا أسماء، إنهم أشبه بحروف الجر. وقد يقسّمون، جرياً على عادة التقسيم المعهودة، إلى الحِرفيين الحَرفيين الذين يؤثّرون النقل بحذافيره، ونَقَلة المعاني الذين يميلون إلى "التصرّف" والتأويل، وعملهم يراوح بين الإبداع والنسخ والتزييف والاختلاق، أمّا الأمانة في النقل، براء من كلّ سوء، فمهمة مستحيلة.
قد يكون المترجمون كتّاباً تضطرهم إلى الترجمة ضائقة مالية، فيترجمون ما ترسله إليهم المصادفات، أو ما تقترحه دور النشر، أو قد يترجمون لأنهم لم يجدوا ما يكتبونه فتستغرقهم الترجمة في قراءة هي الأدّق، ويعيدون كتابة نصوص يحلمون بأنهم مؤلّفوها؛ معظمهم ينقلون عن لغات تعلّموها واكتسبوها، فأجادوا فهمها على الأقل ولا يتكلمونها بالضرورة، ولا يعيشون بين ناطقيها ولا يخالطونهم. شيئاً فشيئاً تتراكم الكلمات بألوفها المؤلفة وتصير رصيداً، فالترجمة، كغيرها من المهن، تستوجب الانضباط والدأب والانتظام والصبر، وغزارة الإنتاج تمرّن اليد والخيال. وكما يحلم بعض الكتاب بتأليف أعمال كبرى، قد تساور المترجمين الرغبة في ترجمة أعمال كبرى، كأن الاتكاء على مثل هذه المؤلفات سيرسخ أقدامهم في أرض الرمال المتحركة المسماة الثقافة، حيث لا شيء يضمن كرامة العيش. أو على العكس، قد يكتفون بالكتب الصغيرة والكتّاب المنسيين، لأن الترجمة كالكتابة لا تبعث على الرضى، وإن كان قلقها أقلّ، وحلولها أسهل غالباً؛ كلتاهما تتحوّل باستمرار، وتكاد تقتصر الصياغات النهائية القاطعة على النصوص المقدّسة، إذ مثلما ينقّح بعض الشعراء قصائدهم القديمة، قد ينقّح المترجم ترجماته الأولى، فيرى أنه حبيس أسلوبه وخياراته وذائقته، وينتبه كيف يكرّر صياغاته وحلوله التي توصل إليها، وكيف يغدو أسيرها فتُستهلك لغته.
في كتابه "أتلك سمكة في أذنك؟" يتحدث ديفيد بيلوس عن مزايا الترجمة عبر لغة وسيطة، فقد قام بترجمة إسماعيل كاداريه من الفرنسية إلى الإنكليزية (أعمال كاداريه العربية نقلت عن اللغة الفرنسية أيضاً، كما نقل عنها بسام حجار أعمالَ كاواباتا وسامي الدروبي أعمالَ دوستويفسكي). يتحدث بيلوس في كتابه الممتع عن أثر المترجم غوغل، ويسخر من النظريات التي يحسبها تثقل مهنة الترجمة بمسحة جنائزية وكآبة ميلودرامية، فالحلول، على الرغم من كل شيء، تبقى ممكنة.
المساهمون