أبو يعرب المرزوقي.. عن الترجمة والمثاقفة

22 نوفمبر 2019
أبو يعرب المرزوقي
+ الخط -

في إطار أنشطته التي تتناول مواضيع مثل المثاقفة والأقلمة والمواكبة العلمية، يقترح "مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية" في جامعة قطر، محاضرات تعيد تأصيل هذه المفاهيم في ثقافتنا العربية، من بينها تلك التي قدّمها المفكّر التونسي أبو يعرب المرزوقي مؤخّراً، وتحدّث عن "الترجمة وإشكالات المثاقفة" وتطرّق فيها بالخصوص إلى "دور الترجمة في النهوض بالفكر الإنساني".

انطلق المرزوقي من سؤال مركزي: "هل المثاقفة تُمكّن من النهوض بالفكر؟". يبدو الجواب عن سؤال كهذا بديهياً بالإيجاب، والحال أن المثاقفة تتنافى مع النهوض بالفكر، حسب ما يراه المرزوقي لأنها تُنمّط الفكر ولا تثريه، ومتى كانت الترجمة نقلاً لما يكتبه الآخرون دون استراتيجية للنهوض بالفكر يستحيل الترجمان إلى قاتل للإبداع. إذّاك يكون التثاقف معزّزاً للنماذج الغربية التي تجرف الخصوصيات الثقافية كما يجرف الواد الهائج الحجارة الصغيرة. ها هنا يكون التثاقف سلبياً وينتفي الدور الحقيقي للمترجم وهو أن يكون حلقة وصل بين الثقافات العالمية، وما تحتاجه الثقافة التي ينتسب لها، ودون ذلك يستحيل المترجم إلى محض أداةٍ استلابية، وعتاب الرجل شديدٌ على بعض مترجمي المغرب العربي بسبب هذه النوعية من الترجمة بالذات.

هذه نقطة لم يخطئها صاحب كتاب "استئناف العرب لتاريخهم الكوني"، ولعل الناظر في المكتبة العربية سيوافقه الرأي حين يجد أن بعض جهود المترجمين العرب قد انصرفت في جزء كبير منها إلى استجابات شخصية لطلبات نشر ترجمات كتبٍ بعينها، أقل ما يقال عنها إنها ثانوية، وهي ترجمات قلّما أملتها الحاجة العلمية الموضوعية، ناهيك عن عدم خضوعها لتحكيم ومراجعة علمية دقيقة.

يُقدّم المرزوقي نماذج ممّا يعتبره "ترجمة/ مثاقفة استلابية"، يقول إنها تبدو مثل تمارين في ترجمة حوارات عامية وأخرى علمية، وفي نقل نصوص رياضية وأخرى أدبية وروائية. كما يذكر في ما يذكر أمثلة لترجمات ابن خلدون من وإلى الألمانية، وأخرى لترجمة نصوص أرسطو وإقليدس من وإلى اللغة العربية، ويرى أن جزءاً كبيراً منها نقل غير موفق، لأنه لم يقف على واقع اللغة والفكر آن ترجمته، وإنما ماثلتهما نمطياً.

في ظاهر الأمر يبدو أن المرزوقي يأخذ على المترجمين غياب إبداعهم وانصرافهم لدور الناقل بدل المبدع، لكن التصور حول الترجمة أكبر من هذا، فهو يعكس تصوّراً لحركة الفكر واتجاهه، لعلاقة الشرق بالغرب، ولنوعية المثاقفة الممكنة بينهما، وليس يُغرينا القول الأثير بأهمية وجود استراتيجية للترجمة إلا إذا عرفنا الفكر الذي قد يحكم هذه الاستراتيجية (في حال وُجدت)، أي الفكر الذي سيقول صراحةً بما ينبغي أن يُترجم وما يتوجّب ألا يُترجم.

ويبدو أن أساس تخمين المرزوقي - وهو الذي قدّم إسهامات في مجال الترجمة - أننا نحن المسلمين غير متكافئين مع الغرب، فلا فكرهم فكرنا، ولا قيمهم قيمنا، ولا حضارتهم حضارتنا، ومن ثم فترجمتهم لا تلزمنا إلا بقدر ما تُفيد تبيان فروقنا واختلافنا عنهم، وإن شئنا ترجمنا ما يعزّز خصوصيتنا، وما يُزكّي نموذجنا المتميز في الحضارة، وإلا لم نُترجم عن الغرب شقاءه وعيشه على "المائدة والسرير"؟ هكذا يتراءى منطق "ديمومة العودة للذات" الهيغلي في هذا التخمين المرزوقي، أي استمرارية الذات بعودتها المستمرة إلى ذاتها.

لكن لِماذا يرى المرزوقي أن المترجمين يعوزهم الإبداع؟ كيف لا تكون الترجمة؛ أيّ ترجمةٍ وكيفما كانت، إبداعاً إن كانت هي في بادئ الأمر ومنتهاه تأويلٌ للنص المترجَم؟ أي أنها عُنفٌ ممارس بالضرورة على النص الأصلي لاستيعاب مضامينه ونقلها إلى لغة غير لغته؟ وأيّاً كان التأويل فلن يكون سوى كتابة لنص جديد يحتمل تأويلات مختلفة؟ أليس أصل النص المترجم موضوع نقاش وتأويل، وكتابة وإعادة كتابة؟ ثم كيف لا تكون الترجمة أداة تثاقف وهي القائمة أساساً على نقيض التمركز العرقي والإثنولوجي بانفتاح المترجم على نصوص مختلفة وأسئلة جديدة قد تفتح الباب على مصراعيه لقراءة جديدة ومتجدّدة للسائد من النصوص والأفكار؟

يَعتبر فرانسيس جورج شتاينر أحد أهم المتخصصين الفرنسيين-الأميركيين في قضايا الترجمة أن بعضهم قد عازه الإبداع، ولهذا السبب توقفوا عن الترجمة بعد أن اختنقوا من شدة استنشاقهم هواء النص الغريب، ونتساءل هاهنا إن كان الرجل قد اختنق بهذا "الهواء الغريب" لنصوص الفكر الراهن وغيرها ممّا قد يعتبرها المرزوقي مواضيع لغرب "المائدة والسرير"؟ هل تكون بعض ترجمات نصوص "المائدة والسرير" ارتكبت خطأ ما بطرحها إشكالات في لغتنا وثقافتنا لم توجد إلا في لغة وثقافة النصوص المُترجم مِنها؟

يبدو أن لا تثاقف مع الغرب في مواضيع كهذه، فمنطق هذا الفكر يقولُ بالنظر في التراث بفكر التراث أو ما يشابهه، فلا يُفهم الإسلام إلا بالإسلام، ولا يُفهم ابن خلدون أو الفارابي إلا بهما أو بما قبلهما، وإن شاء فَهم الحاضر ومواضيعه عاد ناكصاً لأدوات الماضي مُستلهماً نموذجه المثالي في الحضارة، ونتيجة ذلك أن يكون كل نظرٍ في مواضيع كهذه بفكر حديث هو الفكر الماركسي أو البنيوي أو التحليل النفسي مثلاً عملاً مرفوضاً أو قل للدقة مستحيلاً، لأنه في اعتقاده قائمٌ على تنزيل فكر غربي خارجي على فكر شرقي داخلي هو خاصةُ الشرق وحده، بهذا المنهج يدخل هذا الفكر في أسطوريته ويُعيق "بخصوصيته" حركة النقد ليستمر في إعادة إنتاج ذاته نماذج متكرّرة يتملّكها التراث بأسئلة الماضي ولا تتملكه بأسئلة الحاضر.

نتيجةُ ذلك أيضاً أن يكون ابن خلدون فيلسوفاً خالصاً، ولا يعنينا إلا من حيث هو ثورة في الفلسفة على من سبقه، أما أن نقرأ ابن خلدون على ضوء فكر راهن، ونقول مثلاً إنه ابتدع علماً جديداً بكيفيات الوقائع وأسبابها هو العلم بالأسباب المادية القائمة على صراع طبقي يَنشأ عن تغلبات البشر بعضهم على بعض، ومنه يكون الملك والدولة، ومنه أيضاً انهيارهما، فذلك لا يعني كثيراً هذا الفكر. يستحيل من ثم عمل محمد عابد الجابري في "فكر ابن خلدون: العصبية والدولة" وحسن عبد الله حمدان في "في علمية الفكر الخلدوني" وفؤاد البعلي في "ابن خلدون: رائد العلوم الإنسانية والاجتماعية" والطاهر عبد الله في كتابه "نظرية الثورة من ابن خلدون إلى ماركس" وعلي الوردي وغير ذلك كثير غير ذي قيمة، لأنه ربما "استُلب" بدراسة التراث بأدوات غير أدواته. والخطر طبعاً أكبر في فكرٍ يعود إلى المفاهيم الخلدونية ليفسر الصراع في الواقع العربي كونه واحداً في الاثنين؛ أي في الماضي وفي الحاضر، كأننا لم نَعِش في بلداننا رأسمالية ولا إمبريالية ولا حركات تحرر ضدهما.

أن تستوعب الحضارة العربية التجارب الإنسانية بما قد يسمح لها بالانطلاق إلى إعادة هيكلة وجودها "المتردي والمتردد" يعني أن تحل أزمة علاقة ماضيها بحاضرها، وهي - في تقديري - أزمة تتكشف بالوقوف على الماضي بالحاضر لا بالماضي، أي بترجمة الفكر الحاضر واستيعابه بأدواته لا بأدوات التراث، وإن شئنا العودة للتراث نعود له بأدوات الحاضر لأنها أدوات إنتاج المعرفة العلمية، وإلا فكيف نُمارس حقوقنا الكونية في المثاقفة والتعارف والاختلاف مع الآخر إن كنّا لا نريد معرفته كما هو أي كما نقرأه في نصوصه، حتى تلك المتطرّفة منها، وإن لم نمتلك ما يكفي من جرأة استقبال الآخر الغريب لا داخل لغتنا فحسب ولكن داخل فكرنا وثقافتنا أيضاً؟


* كاتب وباحث مغربي

دلالات
المساهمون