أبو وليد يغادر البناية

06 فبراير 2017
لا يخرج إلا ليذهب إلى عمله (مروان نعماني/فرانس برس)
+ الخط -
لم نكن نلتقي إلا في المصعد، وفي ساعات الظهر تحديداً. ربما كان هذا الوقت الذي يعود فيه إلى بيته لتناول الغداء. حتى حديثنا كان دائماً محدوداً ويدوم مقدار الفترة الزمنية التي يحتاجها المصعد للوصول من الطابق الأرضي إلى الطابق الثاني. فأنزل، ويتابع هو صعوده نحو الطابق الرابع وحيداً. لم يحدث بيننا أكثر من هذه الحوارات السريعة، مع أننا جيران منذ نحو 38 سنة.

لم يعمل جارنا أبو وليد، بحسب علمي، إلا لحّاماً (جزّاراً). والاسم الثاني للمهنة، كما الأول، قد يبدو مهولاً لرجل بلطفه ودماثته. لم أره إلّا مبتسماً، نصف ابتسامة، وعيناه شاردتان كأنّه يحدّق دوماً في مجهول. كنّا كلما التقينا في المصعد سألني عن حالي وعن صحّة والدي. ولم تكن الفترة الزمنية التي نلتقي فيها تسمح بأكثر من هذين السؤالين. صحيح أنني لم أفهم لماذا لم يقتصر اطمئنانه إلا على شخصين من عائلتنا، لكني لم أبالِ بذلك. ولم أكن أشعر بالملل من سؤاليه رغم أنهما لم يتغيّرا يوماً.

لم أسمع أنه شارك يوماً في نشاط، أو في اجتماع للبحث في مشاكل البناية، وهي كثيرة. لم يكن متأثّراً بالسياسة، ولا بالرياضة، ولا بالفن. كل ما أعرفه أنه الرجل الذي لا يخرج إلا ليذهب إلى عمله فقط. وقد ترك مسؤولية إدارة المنزل لزوجته، أم وليد، التي أنهكها العمر وأضعف بنيتها، لكنها ما زالت تنزل بنشاط وحيوية إلى سوق الخضار المجاور لتأمين احتياجات من بقي من عائلتها في المنزل ولم يتزوّج بعد. حالها حال العديد من السيدات في البناية.

طوال السنين التي عرفتها فيها، بما فيها سنوات الحرب الأهلية، لا أذكر أنّ عائلة جارنا أبو وليد غادرت البناية إلا مرةً واحدة. قامت العائلة قبل سنوات، ولسببٍ غير واضحٍ بالضبط، بتأجير منزلها في البناية، وانتقلت إلى منزلٍ آخر لا يبعد عن الأول إلّا عشرات الأمتار.

مع ذلك، وبعد مرور فترةٍ زمنية، عادت العائلة إلى منزلها في البناية، من دون أن يتوضّح سبب العودة، تماماً مثلما لم يتوضّح سبب المغادرة. وقد قدّرتُ أنهم لم يتعوّدوا المنزل الجديد ولم يشعروا بالراحة فيه، رغم أنه كان في المنطقة ذاتها. البيت الأوّل هو دائماً "المنطقة الآمنة" للمرء، حتى لو انتقل إلى آخر قريب أو ذهب إلى آخر الدنيا.

توفّي جارنا أبو وليد قبل يومين. يقولون إنه مرض لأيام معدودة فقط. مات في منزله من دون ضجيج، عادته الدائمة في الحياة. كان جاراً آدمياً. والجيران الأوادم يؤسَفُ على رحيلهم دائماً.

دلالات
المساهمون