أبعاد انقسام إخوان الأردن
ظلت جماعة الإخوان المسلمين في الأردن، على مدار سنوات تمددها في البلاد، في نحو خمسة عقود (الجماعة عمرها في الأردن سبعة عقود)، بمثابة "دولة داخل الدولة"؛ لها مجتمعها ونظامها الاجتماعي الخاص، فضلاً عن أن لها مؤسساتها الخاصة: الاقتصادية كالبنك الإسلامي، والخيرية كمجموعة كبيرة من الجمعيات، أبرزها جمعية المركز الإسلامي، والتربوية كالمدارس وجامعة الزرقاء الخاصة، والطبيّة كالمستشفى الإسلامي، والإعلامية كصحيفة السبيل اليومية وفضائية اليرموك، والصحيح أن مؤسسات الجماعة في الأردن أكثر من أن تُحصى أو يجري تصنيفها.
بدت الجماعة في الأردن، بسبب نظامها الاجتماعي ومؤسساتها الخدمية، جزيرة متمايزة عن المجتمع. لكن، ليس لهذا فقط، يبدو انقسام الجماعة اليوم حدثاً خطيراً وكبيراً، فالجماعة ظلت، أيضاً، منذ الأزمة السياسية التي عرفها الأردن في 1957، لاعباً أساسياً في البلاد. في تلك الأزمة، بدا أن القوى اليسارية في الأردن، وعلى رأسها الحزب الوطني الاشتراكي ذو الطابع الناصري، والذي كان يترأسه رئيس الوزراء يومها، سليمان النابلسي، تنوي تهديد نظام الحكم، جرياً على أفكار "تصدير الثورة" الناصرية. كان "الإخوان" إلى جانب نظام الحكم يومها، وظلوا كذلك خلال الأزمات التالية: عقب يونيو /حزيران 1967 وتداعيتها، خلال أزمة 1970 مع تنظيمات منظمة التحرير، وعلى مدار العقدين التاليين اللذين عرفا حروباً ونقاط تحوّل سياسية كبرى في الصراع العربي الإسرائيلي، وصولاً إلى أزمة 1989 التي طالب الشعب فيها بالإصلاح، وأفضت إلى قرار الملك حسين "استئناف الحياة الديمقراطية".
ظل "الإخوان" سنداً لنظام الحكم في كل تلك العقود، فيما ظلت القوى السياسية الأخرى ممنوعة وملاحقة على قاعدة "الأحكام العرفية" التي فرضت على البلاد منذ حرب 1967 وحتى 1989. بالطبع، استفاد الإخوان من "استعمال نظام الحكم لهم" استفادة قصوى، إذ انتشرت مؤسساتهم، وزاد جمهورهم، وقويت شوكتهم، وربما كانت أخطر أدوارهم أنه عُهد إليهم، بطريقة غير مباشرة، صياغة مناهج التعليم المدرسي في السبعينات، فكان أن صُبغت مناهج التربية الإسلامية واللغة العربية بخطابهم المحافظ، فيما مُنع تعليم الفلسفة، وجرى تهميش تعليم الفنون، وهو ما انعكس على مفاهيم ومدارك عدة أجيال من الأردنيين للدنيا، ولمنظومة القيم الحياتية.
في العقدين الأخيرين، اللذين تليا توقيع اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية في 1994، تراوحت علاقة "الإخوان" بنظام الحكم بين الاقتراب والابتعاد، بل بين التحالف والاستهداف، خصوصاً بعد الانتصار النهائي على القوى القومية واليسارية المعارضة للنظام، منذ أواخر ثمانينات القرن العشرين، وبقاء "الإخوان" قوة سياسية منظمة وحيدة في البلاد، وامتلاكها عنواناً رئيسياً للمعارضة، يتمحور حول العلاقة مع إسرائيل، ما تبدّى، مثلاً، في تفصيل الحكومة، غير مرة، قوانين انتخابية، هدفت إلى تقليص المساحة السياسية التي يشغلها "الإخوان". لكن هذا كله، لم يحوّل الجماعة في الأردن خصماً للحكومة والنظام، بل ظلت ركناً أساسياً في استقرار البلد وسلمه الاجتماعي.
من هنا، لا يبدو أن تدخل الحكومة غير المباشر في الأزمة الإخوانية الداخلية، بمنح تصريح جديد للمنشقين منهم، جعلهم جماعة أخرى ذات صبغة قانونية، يرمي إلى القضاء على الجماعة أو إضعافها أو إخراجها من دائرة التأثير السياسي والاجتماعي، بقدر ما يرمي إلى دفعها لتغيير خطابها العام، على أساس تغيير شكل تحالفاتها الإقليمية، خصوصاً مع حركة حماس، ومع مركز التنظيم العالمي للإخوان في القاهرة. تريد الحكومة الجماعة، لكنها تريدها أردنية، وهذا نفسه ما تريده "الجماعة الجديدة"، ما يفتح الطريق إلى إعادة الصيغة القديمة للعلاقة بين الإخوان ونظام الحكم، القائمة على ثنائية استعمال النظام الجماعةَ استعمالاً ثقافياً واجتماعياً، في مقابل حصول الجماعة على مساحات مؤثرة في الحياة العامة، وهي العلاقة التي جرى الإخلال بها، منذ بداية تسعينات القرن العشرين، بالتوازي مع متوالية ظهور "حماس"، وتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، وظهور الحركات السلفية الجهادية التي لم ينتقدها "الإخوان" صراحة، وصولاً إلى الربيع العربي وتداعياته، خصوصاً في مصر.
هكذا، فإن التخوّف من أن الانقسام الإخواني جرى على قاعدة الأصول؛ بين أردنيين من أصل فلسطيني ظلوا موالين للجماعة الأولى، وأردنيين من أصول شرق أردنية انحازوا إلى الجماعة الجديدة، لا يبدو عميقاً أو دقيقاً، لأنه من غير المتصوّر أن الجماعتين ستظلان قائمتين، فالأرجح أن تبتلع إحداهما الأخرى.