أبطال افتراضيون لكن حقيقيون

11 فبراير 2015
+ الخط -

تذكّروا هذا الاسم جيدا، هيرفي فلاسيانس، واسم الشهرة سويس ويكليكس. هو اسم موظف مغمور في أحد البنوك السويسرية، قرر فتح مغارة "علي بابا" السويسرية التي يهرب إليها أغنياء العالم ومفسدوه ثرواتهم المشكوك في مصادرها.

سينضم اسم هيرفي فلاسيانس إلى أسماء بطلين آخرين، هما جوليان أسانج صاحب موقع "ويكليكس"، وإدوارد سنودن. والاثنان بات ينظر إليهما أبطالاً حقيقيين، أبطال خرجوا من العالم الافتراضي، عالم الشبكة العنكبوتية. وعلى غرار أسانج وسنودن، سيدخل اسم فلاسيانس إلى عالم الأبطال الجدد. بطولته تتجلى في الملفات التي سربها من قاعدة بيانات البنك السويسري الذي كان يعمل فيه، وتضمنت 130 ألف حساب بنكي سري، تعود لملوك ورؤساء دول وسياسيين ورجال أعمال وفنانين ورياضيين وأثرياء، وتقدر قيمتها الإجمالية بأكثر من 180 مليار يورو. ومن شأن الكشف عن هذا الكم الهائل من الحسابات السرية أن يشكل فضيحة عالمية، خصوصاً إذا ما علمنا أن أصحابها إنما لجأوا إلى إيداعها في البنوك السويسرية، للتهرب من الضرائب في بلدانهم.

لا تقل تسريبات فلاسيانس أهمية عن تسريبات أسانج وسنودن، إن لم تكن أخطر منها بكثير، فهي تكشف عن فضائح مالية، وكما يقول المثل الفرنسي "عصب الحرب هو المال". فأسانج كشف عن وثائق الدبلوماسية الأميركية التي فضحت فساد أنظمة كثيرة، خصوصاً في العالم العربي، إلى درجة أن مراقبين كثيرين اعتبروا أن تسريبات "ويكيليكس" عن الفساد في تونس هي التي عجلت بالانتفاضة الشعبية التي أطلقت شرارة "الربيع العربي".

أما تسريبات سنودن فكشفت أكبر برنامج للتجسس السري للإدارة الأميركية، لمراقبة اتصالات الهواتف والإنترنت، وأدت إلى زعزعة ثقة الشعب الأميركي بإدارة بلاده، وجعلت الرئيس

الأميركي، باراك أوباما، يعد بمراجعة نظام مراقبة الاتصالات في أميركا، حتى يكون أكثر شفافية، ويستعيد ثقة الناس فيه.

ومع تسريبات فلاسيانس، يتوقع أن يشهد العالم "ثورة" جديدة، بطلها وفضاؤها العالم الافتراضي، إلا أن "الثورة الجديدة" ستكون بطعم الفضيحة المالية والأخلاقية. وعلى غرار تسريبات أسانج وسنودن، سينهج فلاسيانس الأسلوب نفسه في النشر، بالاعتماد على مؤسسات إعلامية عريقة، وذات مصداقية لتعميم فضائحه، وقد بدأت، من يوم الأحد 8 فبراير/شباط 2015، أكثر من 60 وسيلة إعلام دولية نشر هذه التسريبات، ومن المتوقع أن تتبعها آلاف من وسائل الإعلام في العالم في النشر والتعميم.

ومن خلال ما نشرته صحيفة لوموند الفرنسية، فقد ظهرت، حتى الآن، أسماء كبيرة لها حسابات بنكية بمليارات اليوروات، منها أفراد من الأسرة الملكية الإسبانية، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.

نحن، إذن، أمام جيل جديد من الأبطال، حيث يتغير مفهوم البطل بمعناه التقليدي، فالبطل، هنا، مجرد فرد يقرر، بضربة زر، أن يضع أمام العالم أسرار الكبار. فأسانج تحول إلى رمز للثورة ضد الفساد وحُماته، والنفاق السياسي والدبلوماسي في العالم، وسنودن بات ينظر إليه رمزاً للحرية الشخصية في العالم، نجح في كشف زيف تقديس حرية الفرد والحياة الشخصية التي تعد أهم أسس قيم الحياة في العصر الحالي، في أميركا والغرب عموما. وفلاسيانس يفتح أمامنا علبة أسرار عالمية حبلى بالفضائح المالية والأخلاقية.

ما يجمع بين الأبطال الثلاثة اكتشافهم أنهم يعيشون في عالم مزيف وخادع وفاسد، وقرروا الثورة عليه بفضحه. وثوراتهم هذه بدأت في دفع الناس في الغرب إلى طرح الأسئلة عن مدى محدودية مفاهيم، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والشفافية والمحاسبة والحكامة الجيدة في عصر الاتصال الرقمي.

وعندما نتأمل عمل "الأبطال" الثلاثة، نجد أنهم تحركوا بوازع أخلاقي، ضد النفاق الدبلوماسي (حالة أسانج)، وانتصاراً لحرية الفرد (حالة سنودن)، ومن أجل فضح الفساد المالي (حالة فلاسيانس). انطلق الثلاثة من قاعدة الحق الأخلاقي الكونية، لمواجهة الدول والأنظمة. إنهم فرسان العصر الحديث، فرسان بلا سيوف ولا نبال، سلاحهم الوحيد شجاعتهم، عندما قرروا التضحية بحرياتهم وحياتهم. فرسان افتراضيون، لكنهم حقيقيون متمردون وثوريون، يؤسسون لنوع جديد من الاحتجاج الذي سيعيد النظر في الفعل السياسي، وفي مفهوم المقاومة والنضال، وفي رمزية الثورة.

ينظر بعضهم إلى هؤلاء بأنهم مجرد "قراصنة" و"لصوص"، و"خونة"، و"مارقين عن القانون". لكن، ما يشفع لهم عن كل هذه "الأخطاء" أنهم كشفوا زيف ونفاق النظام الذي يريد محاكمتهم، وسعيهم إلى إعادة إحياء القيم النبيلة التي تؤسس لنظام ديمقراطي جديد، لا تكون الدولة فيه مجرد "علبة أسرار لحماية الفاسدين"، أو "آلة تجسس على مواطنيها"، أو "بنك لحسابات مالية سرية".

إنهم بتسريباتهم هذه يبدون مثل قارعي جرس الإنذار، لإعادة الاعتبار إلى التفكير السليم، الذي يقوم على النقد والشك وطرح الأسئلة المزعجة. فهم يعيدون طرح السؤال بشأن النفاق الذي يطبع الأنظمة الديمقراطية، وزيف القيم السياسية والأخلاقية المؤسسة لها، ويحثون على التفكير في مفهوم جديد، لنظام شفاف، يخضع فيه الجميع للمحاسبة والنقد. قد يبدو هذا مجرد حلم لن يتحقق إلا في العالم الافتراضي. لكن، من كان يعتقد أن أبطال هذا الحلم هم أنفسهم من إنتاج هذا العالم الافتراضي، لكنهم أبطال حقيقيون.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).