آيسلندا تعلّمت الدرس

11 فبراير 2015
+ الخط -
تطورت جمهورية آيسلندا، الجزيرة الأوروبية الواقعة في شمال المحيط الأطلسي، من دولة اشتهرت بصناعة الصيد إلى دولة تقدم خدمات مالية متطورة. في عام 2007، كانت آيسلندا البلد السابع الأكثر إنتاجية في العالم للفرد، حيث أدى النمو الاقتصادي الكبير إلى الصعود بها إلى المرتبة الأولى على مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية خلال العام نفسه. 
هذا التطور في أدائها الاقتصادي، تعرض لانتكاسات، بسبب الركود الاقتصادي العالمي في الفترة بين 2008 و2010، والذي تسبب في انهيار المصارف الثلاثة الكبرى فيها. وقد تجاوزت ديونها مجتمعة حوالى ست مرات الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وبدلا من إنقاذ المصارف، على غرار الطريقة الأميركية، لتفادي انهيار اقتصادي وشيك، أعفت الدولة سكانها من ديون الرهن العقاري، لتبدأ تماماً من نقطة الصفر، وهي الطريقة التي لاقت انتقادات شديدة من جيرانها الأوروبيين.
تعرّضت المنظومة المصرفية لآيسلندا، البلد الذي بالكاد يتجاوز عدد سكانه 320 ألف مواطن، لشلل كامل خلال الأيام الأولى من الركود الاقتصادي. ورغم أنها لا تزال على الطريق نحو الانتعاش، إلا أن قصة نجاحها في تجاوز مرحلة الخطر لم تمنعها من التعرض لعملية تهميش إعلامي كبير على مدى السنوات القليلة الماضية.
لقد أدركت آيسلندا مُبكّراً أنه من الحكمة عدم ترك المصرفيين الذين تسببوا في حدوث الأزمة من دون عقاب، فزجّت بهم في السجون بعد محاكمتهم، ومن ثم أتبعت هذه الإجراءات بحزمة من التدابير التي ساهمت بشكل كبير في استرداد اقتصادها عافيته، وذلك من خلال سداد قروض المستهلكين، وإعفاء ديون مالكي العقارات، التي كانت تصل في كثير من الأحيان إلى ضعف قيمة العقار. واليوم، فإن اقتصاد آيسلندا بات ينمو بوتيرة أسرع من كل من الولايات المتحدة والاقتصادات الأوروبية.
عندما سُئل رئيس آيسلندا، أولافور غريمسون، إن كان بإمكان دول أوروبية أخرى أن تسير على خطى بلاده في تبنيها لسياسة "دع المصارف تفشل" لانتشال اقتصاداتها من الغرق، أجاب: "لماذا تعتبر المصارف وكأنها الكنائس المقدسة للاقتصاد الحديث؟ لماذا المصارف الخاصة ليست مثل شركات الطيران والاتصالات التي تركت لتعلن إفلاسها عندما كانت تعمل بطريقة غير مسؤولة؟ النظرية التي تقوم على "إنقاذ المصارف" وانتشالها من الغرق، هي النظرية التي تسمح للمصرفيين بالاستمتاع بالربح والنجاح الخاص بهم وحدهم، ومن ثم ترك الناس العاديين يتحملون فشل هؤلاء المصرفيين من خلال فرض الضرائب واتخاذ التدابير التقشفية. الشعوب في الديمقراطيات المستنيرة لن تبل ذلك على المدى الطويل".
إن السبب الرئيسي وراء انتعاش الاقتصاد في آيسلندا وقدرته على النهوض من كبوته، هو نتيجة تحلي مسؤوليه بالحكمة والشجاعة والاستقلالية في اتخاذ القرارات، دون السير خلف المعتقدات التقليدية السائدة منذ ثلاثين عاماً في العالم المالي الغربي. وبينما تركت الحكومة الآيسلندية عددا من كبار مصارفها لمواجهة مصيرها المحتوم، فإنها لم تقف مكتوفة الأيدي أمام تداعيات الأزمة على مواطنيها، فوضعت ضوابط للعملة خشية تدهورها، وقدمت الدعم للفقراء، ولم تستحدث تدابير تقشفية كالتي تم اتخاذها في معظم أرجاء أوروبا.
بالطبع، لا يُمكن المبالغة في تقديم صورة وردية عن الوضع الاقتصادي الحالي في آيسلندا، حيث ما يزال كثير من الآيسلنديين لديهم وظيفتان أو ثلاث لإعالة أنفسهم وأسرهم منذ أزمة عام 2008، في ظل تزايد الأعباء المعيشية التي أصبحت أصعب من أن تُحتمل، نتيجة الارتفاع المفاجئ في الضرائب. ولكن لا بد من الإشارة إلى أن الآيسلنديين هم شعب يتسم بالصرامة، فهم يعيشون في جزيرة تقع على حدود الدائرة القطبية الشمالية، في عزلة تامة عن بقية شعوب العالم، ما جعلهم يتحمّلون على الدوام أنماطا مناخية وظروفا حياتية أقل بكثير من المستوى الأمثل.
ومع وجود نسبة بطالة متدنية لا تتجاوز 5٪ من مجموع السكان القادرين على العمل، فإنه ما من شك في أن هذا البلد نجح في تفادي وقوع كارثة كانت تبدو مستعصية على الحل، في وقت كانت الانتقادات اللاذعة من جيرانه الأوروبيين تنهال عليه بسبب سماحه للمصارف بأن تفشل.
(محلل اقتصادي أردني)
المساهمون