آفاق الثورات العربية بعد مقتل البغدادي

03 نوفمبر 2019
+ الخط -
بعد إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن مقتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية، أبو بكر البغدادي، في قرية باريشا التابعة لمحافظة إدلب السورية، ربما يمكن الحديث عن بداية مرحلةٍ جديدة في الشرق الأوسط، سيما في تقلّص إمكانية توظيف متغير "الحرب على الإرهاب"، لقمع الحراك الشعبي الراهن، في غير مكانٍ من العالم العربي. ولقد اختار ترامب أسلوباً استعراضياً، يفيض بالتوظيفات السياسية/ الدعائية/ الانتخابية، لكي يعرض هذا الإنجاز "المعنوي"، في توقيتٍ يحاول فيه استباق محاولة خصومه الديمقراطيين، في مجلس النواب، النيْل منه. كما يحاول ترامب توظيف مقتل البغدادي في سياق الدفاع عن قراره الانسحاب من شمال سورية، وتأكيد قدرة البيت الأبيض على صياغة مقاربةٍ جديدة، تقوم على تفاهمات مع موسكو وأنقرة وبغداد ودمشق وقوات سورية الديمقراطية "قسد"، بما يؤدي في المحصلة إلى تقليص أعداد الجنود الأميركيين في "الحروب السخيفة"، على حد وصفه، وتحويل تركيز واشنطن إلى حماية حقول النفط في دير الزور والحسكة. 
وعلى الرغم من مقتل زعيم تنظيم الدولة الإسلامية، فإن ذلك لا يعني بالضرورة اختفاء أيديولوجيته من الإقليم والعالم، ولا يقلّل من خطورة ضرباته الانتقامية الوحشية، خصوصاً أن البيئة السياسية/ الاقتصادية/ الاجتماعية في عدة بلدان عربية (خصوصاً العراق وسورية ومصر وليبيا واليمن والسعودية)، لا تزال قابلة لإعادة تشكيل "حاضنة اجتماعية" لمثل هذه الأيديولوجيات الراديكالية المتطرّفة التي تتوسّل بطوبى "الخلافة الإسلامية"، وزعم "الدفاع عن حقوق السنّة المضطهدين".
وإذا أردنا رسم صورة أولية لمستقبل المنطقة، بعد مقتل البغدادي، ينبغي تحليل ستة متغيرات 
دولية/ إقليمية متداخلة، تجعل الشرق الأوسط أمام مشهدٍ شديد التعقيد والسيولة: الأول، استمرار ارتباك/ تردّد السياسات الأميركية والأوروبية في المنطقة، ما يغري المنافسين الدوليين والإقليميين بالتقدم في إنجاز مشروعاتهم، وهذا ما يفسّر جزئياً نجاح سياسات للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وسياسات حلفائه، سيما في سورية. الثاني، تراجع أكبر في تأثير قوى الثورات المضادة سواء من الديكتاتوريات العربية (مصر والسعودية)، أم النظام الإيراني، أم القوى الطائفية والمليشيات، خصوصاً في لبنان والعراق، التي تعيش جميعاً أوضاعاً صعبة نتيجة إخفاقاتها السياسية والتنموية والاقتصادية، وتراجع قدرتها على توفير متطلبات الحياة الكريمة لشعوبها. ويتعلق المتغير الثالث، باحتمال "انزياح" تركيا تدريجياً نحو سياساتٍ شعبوية مناهضة للاجئين، ما قد يفتح الباب أمام بروز نزعةٍ عسكرية تدخليةٍ، ما يجعل أنقرة تبتعد أكثر عن الثورات العربية وقضايا الشعوب واللاجئين، لكي تقترب أكثر من سياسات روسيا، المعادية للتغيير في المنطقة، ما يعني في المحصلة "تراجعاً نسبياً" في الدور التركي الإقليمي، و"توتراً متزايداً" في العلاقات التركية – العربية، على الصعيدين الرسمي والشعبي، بعد انحسار نفوذ الجناح الراغب في سياسة "صفر مشكلات" مع العرب والعالم، وإقصاء رمزه الأبرز، أحمد داود أوغلو، من حزب العدالة والتنمية الحاكم. رابعاً عودة "سياسات الشارع" والحراك الشعبي/ الشبابي/ الطلابي، إلى التأثير والحضور في مستقبل العالم العربي، بعد فترة "كمون"، نتيجة سياسات القمع الأمني والتضييق على الحريات التي هيمنت على المشهد العربي منذ الانقلاب العسكري في مصر يوليو/ تموز 2013. خامساً، احتمال انحسار تأثير الحركات الإسلامية في المشهد العربي، بشقيها السياسي (مثل الإخوان المسلمين)، والراديكالي/ العنيف (مثل القاعدة وداعش)، بسبب عوامل متعددة، أهمها غياب المراجعات، وضآلة التنظير الفكري/الاستراتيجي، وتفكك الكيانات الأكبر إلى وحدات وخلايا أصغر، قد يصعب السيطرة على قراراتها. وأخيراً احتمال حدوث تغيير في مقاربة واشنطن ل"محاربة الإرهاب"، والتركيز بصورة أكبر على استهداف إيران وميليشياتها، عبر إجراءات خنق اقتصادي/ مالي، في ظل سياسة "الضغط الأقصى"، مع احتمال تفويض تل أبيب في القيام بضرباتٍ جوية موضعية، ضد مواقع النفوذ الإيراني في كلّ من لبنان وسورية والعراق، ما ينطوي على توسيع دور إسرائيل في الشرق الأوسط مع احتمال الانجرار إلى مواجهة "محدودة" مع إيران نفسها في مرحلة لاحقة، التي تتزايد حاجتها لتحدي السياسات الأميركية/ الإسرائيلية، حتى لا يظهر النظام الإيراني بمظهر "العاجز" أمام هذه الضغوط الاقتصادية والعسكرية.
وبشكل عام، يمكن أن ينعكس التغير في مقاربة واشنطن لـ"محاربة الإرهاب"، والتركيز بصورة أكبر على استهداف إيران ومليشياتها، إلى توفير مناخٍ قد يشجع على نجاح الحراك الشعبي في مناطق نفوذ إيران، خصوصاً في لبنان والعراق وسورية، بل قد يحفّز الداخل الإيراني نفسه على انتفاضة شعبية جديدة، تتوازى مع ما يحدث في عدة بلدان عربية. وإذا حدث ذلك، ربما تتداخل "الثورة السياسية" على الفساد والطائفية في العراق ولبنان حالياً، مع "ثورةٍ وطنيةٍ" على تبعية النخب المحلية للمصالح الخارجية (الإيرانية والأميركية)، ما قد يفتح الباب أمام إعادة بناء الهوية الوطنية، والتخلص من منطق المحاصصات وداء الطائفية.
ويفرض هذا كله على قوى الحراك الشعبي في لبنان والعراق الاستعداد لمواجهة تحديات المرحلة الراهنة، من خلال تماسك القوى الشبابية والثورية، واستمرارها في المظاهرات والاعتصامات السلمية، وعدم الانجرار إلى مربعات التصعيد، على الرغم من العنف الذي تمارسه أجهزة الدولة والمليشيات ضدهم في الشارع، مع الإيمان الراسخ بأن الشعوب هي التي تنتصر، في النهاية، على خصومها من المستبدين والفاسدين في الداخل، وداعميهم في الخارج.
صحيحٌ أن الحراك الثوري يمكن أن يمر بحالات من "المد والجزر"، بسبب احتدام الصراع بين 
قوى الثورات والثورات المضادة في العالم العربي، لكن المؤشّرات الراهنة تؤكد أن شعوب المنطقة أمام فرصةٍ حقيقيةٍ لتحقيق بعض آمالها ونيل جزءٍ من حقوقها، بعد أن فقدت سياسات الثورات المضادة أحد أركانها المهمة، (أي "الحرب على الإرهاب")، التي استخدمتها أطرافٌ دولية وإقليمية عديدة، بينها تعارضٌ في المصالح، لكنها كانت، ولا تزال، متفقة على منع التغيير في العالم العربي.
باختصار، تراجع قدرات تنظيم الدولة الإسلامية، وارتباك السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، واحتمال تصاعد الصراع الإسرائيلي الإيراني المباشر أو عبر الوكلاء، ذلك كله يشكّل فرصةً حقيقية أمام الثورات العربية، شريطة التعامل الحصيف مع تحدّيات المرحلة الراهنة التي تشير إلى تحولات نوعية في النظامين، العالمي والإقليمي، لكنها تنتظر من يفهمها ويأخذها في حسبانه، سواء في حراكه الثوري أم جهده الإصلاحي.
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
أمجد أحمد جبريل

باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.

أمجد أحمد جبريل