دخل الاتفاق النووي مع إيران السباق الرئاسي الأميركي، وبات جزءاً من المعادلة الداخلية. بدأ الرئيس باراك أوباما يستشعر خطر خروج هذه القضية عن السيطرة، فلعب كل أوراقه، بغية تسويق الاتفاق، في محاولة لقطع الطريق على ضغوط الكونغرس المرتقبة.
قدرة أوباما على التسويق مرتبطة بثلاثة تحديات رئيسية: أولاً مدى التزام المرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون بدعم التسوية في ظلّ انتقادات منافسيها الجمهوريين، وثانياً دراسة ميزان القوى في الكونغرس، لا سيما ضمان عدم حصول تمرّد ديمقراطي كبير على قيادة الحزب، وثالثاً متابعة مدى قدرة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على التشويش وتغيير مزاج المشرّع الأميركي.
وفي ظلّ كل تلك المعطيات، تتداخل كل الروزنامات في الفترة المقبلة: روزنامة الكونغرس وعطلته الصيفية المتوقعة، وروزنامة السباق الرئاسي والمناظرة الجمهورية المتوقعة الشهر المقبل، وروزنامة تنفيذ الاتفاق التي ستُرخي بظلالها على الولايات المتحدة حتى نهاية العام المقبل على الأقلّ.
وقبل إعلان التسوية رسمياً في العاصمة النمساوية فيينا، اتصل أوباما بوزيرة خارجيته السابقة هيلاري كلينتون، لإطلاعها على مضمون الاتفاق. والدافع وراء هذه الخطوة، كان تشجيع هيلاري على تسويق الاتفاق خلال لقائها في اليوم ذاته مع القيادات الديمقراطية في الكونغرس، لكن الاتصال في رمزيته كان تلميحاً من أوباما، بأن كلينتون هي مرشحة الحزب الديمقراطي الفعلية.
وقد أربكت تطورات الملف الإيراني هيلاري هذا الأسبوع، إذ كانت تعتزم زيارة القيادات الديمقراطية في الكونغرس، والحديث عن برنامجها الاقتصادي، لكن الملف الإيراني سرق أضواء جولتها التشريعية. وكان لافتاً تعليقها الأول على الاتفاق، الذي وصفته بأنه "لحظة هامة جداً".
لكن كلينتون عمدت في المقابل، إلى إيصال ثلاث رسائل. تمحورت الرسالة الأولى حول اعتبارها أن "العبرة تكمن في تنفيذ الاتفاق" مع التأكيد أنها قادرة على فرض ذلك في حال انتخابها. وجزمت في الرسالة الثانية أن "إيران تُمثّل خطراً وجودياً بالنسبة لإسرائيل"، وهو ما يُعدّ تمايزاً في الموقف عن أوباما. أما الرسالة الثالثة، فكان تأكيدها أنها "تُفضّل عدم تحاور واشنطن مع طهران حول الملفات الإقليمية، قبل التزامها بتنفيذ الاتفاق. وهذا الموقف يتمايز أيضاً مع أوباما، الذي يستكشف فكرة توسيع رقعة التحاور مع إيران بعد الاتفاق النووي.
تحاول هيلاري في الحسابات الانتخابية، أخذ مسافة من المسألة الإيرانية، لا سيما في ظل المعارك المرتقبة التي سيشهدها الكونغرس، وفي محاولة لعدم قطع الخطوط مع بعض المتموّلين اليهود الأميركيين الذين يرفضون التسوية، لا سيما أن موقفها تطوّر مع الوقت.
ويعود السبب إلى أنه خلال المناظرة الرئاسية في العام 2008، قال أوباما، حين كان مرشحاً رئاسياً، إنه "سيعرض فكرة لقاء المسؤولين الإيرانيين من دون شروط في حال انتخابه رئيساً"، فتهكمت هيلاري ووصفت التصريح بـ"غير المسؤول والساذج". لكن بعد أربع سنوات، بدأت هيلاري كوزيرة للخارجية، أولى خطوات التفاوض السري مع إيران في العام 2012 من خلال مستشارها جاك ساليفان، والآن يبدو أن تطلعاتها الرئاسية لانتخابات عام 2016 متشابكة مع إرث أوباما. لا تريد دفع الثمن انتخابياً في حال تخلّيها عن خيارات أوباما، ما دفعها إلى طرح نفسها على أنها "الضامن لتثبيت الاتفاق".
في الشق الإسرائيلي، علمت "العربي الجديد"، أن "البيت الأبيض يعتبر أن أسوأ ما يُمكن أن يفعله رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قد مرّ بسلام"، في إشارة إلى سيناريو إخراج كلمته الأخيرة في شهر مارس/آذار الماضي أمام الكونغرس من دون علم الإدارة الأميركية.
ولم توقف كل جولات نتنياهو مع أوباما حول تعامل واشنطن مع الملف النووي، مسار التسوية، ومع ذلك لا يغامر البيت الأبيض بالتساهل. وقد عقد لذلك مؤتمراً صحفياً، مساء الثلاثاء، عبر الهاتف للمجموعات اليهودية الأميركية، شارك فيه سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل دانيال شابيرو، بغرض طلب "التريّث قبل إطلاق الأحكام على الاتفاق".
وبدأت في واشنطن معركة بين المجموعات اليهودية الأميركية حول الاتفاق، كما تواصل نتنياهو مع بعض هذه المجموعات، لحثّها على رفع الصوت وتكثيف الجهود. نتنياهو، الذي وصف الاتفاق بأنه "خطأ تاريخي"، رسم في خطابه الأخير ملامح المعركة التي يرغب أن يخوضها الكونغرس كفرصة أخيرة ورمزية، لمحاولة اعتراض الاتفاق النووي قبل دخوله حيز التنفيذ.
ويبني اللوبي الإسرائيلي تركيزه على أربع حجج رئيسية: "الاتفاق لم يقض على البنية التحتية للسلاح النووي، ويضع قيودا مؤقتة على طهران لا تتجاوز 10 سنوات، وسيؤدي إلى سباق تسلح نووي في الشرق الأوسط، وسيوفر للنظام الإيراني حوالي 150 مليار دولار لاستثمارها في زعزعة استقرار المنطقة".
ومن المتوقع أن تنتقل المواجهة إلى مبنى "الكابيتول هيل"، حيث سيتسلّم أعضاء الكونغرس النسخة الكاملة للاتفاق النووي نهاية الأسبوع الحالي، وأمامهم 60 يوماً لمراجعة 159 صفحة من التفاصيل التقنية. وسيعقد كل من مجلسي النواب والشيوخ جلسات استماع علنية، سيكون الشاهد الرئيسي فيها كل من وزير الخارجية جون كيري ووزير الطاقة إرنست مونيز.
وبما أن عددا لا بأس به من مرشحي الرئاسة هم أيضاً أعضاء في الكونغرس، فسيستغلّون الفرصة الإعلامية لاستعراض خبراتهم النووية وقدراتهم في الدفاع عن الأمن القومي. كما سيتشاور أعضاء الكونغرس في جلسات علنية ومغلقة مع خبراء في الملف النووي وفي الحدّ من التسلّح. ويتزامن كل هذا مع استطلاعات الرأي، التي تعكس انقساماً بين الأميركيين حول الاتفاق مع إيران واحتمال فتح صفحة جديدة معها، وبالتالي فإن عملية إقناع الرأي العام الأميركي تبقى مسألة حاسمة في الأسابيع المقبلة.
بعدها، يدخل الكونغرس عطلة الصيف التي تبدأ في 10 أغسطس/آب المقبل، وليس متوقعاً أن يكون هناك أي ردّ فعل رسمي من الكونغرس على الاتفاق، قبل العودة من العطلة في 7 سبتمبر/أيلول المقبل. ومع أن الجمهوريين في الكونغرس لم يرحبوا بتلويح أوباما باستخدام الفيتو، فإن البيت الابيض أراد وضع خط أحمر واضح، بأنه "لن يسمح للكونغرس بتقويض سياسته الخارجية أمام المجتمع الدولي".
بالتالي ستخوض الإدارة الأميركية معركة نفَس طويل مع الكونغرس لشرح كل تفاصيل التسوية، لأنه في النهاية حتى لو لم يتمكن الكونغرس من نقض مفاعيل الاتفاق، إلا أن البيت الأبيض سيحتاج إلى دعم الكونغرس لإزالة كل العقوبات الأميركية المفروضة على إيران. وفي حال لم يتمكن من ذلك، فسيكون هناك ثغرة في تطبيق الاتفاق من الجانب الأميركي، وسيكتفي البيت الأبيض برفع العقوبات التنفيذية التي تصدر عن وزارتي الخارجية والخزانة.
وتُعتبر الأصوات الجمهورية في الكونغرس محسومة لصالح عرقلة الاتفاق، وهناك أصوات ديمقراطية معروفة بولائها للرئيس، وبالتالي ستنصب الجهود الجمهورية على إقناع أعضاء مجلس الشيوخ المتأرجحين في قرارهم، مثل روبرت مينينديز وكريس كونز وبنجامين كاردين.
كذلك هناك أيضاً أصوات حاسمة مثل السيناتور عن نيويورك من أصل يهودي تشاك شومر، الذي التزم الصمت حتى الآن، ويبدو حائراً بين ميوله الليبرالية وعلاقاته مع اللوبي الإسرائيلي. لكن نظراً لدوره القيادي، سيعطي غطاءً قوياً لأوباما في مجلس الشيوخ، في حال وافق على الاتفاق.
أما رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ السيناتور الجمهوري بوب كوركر، الذي سيترأس جلسات الاستماع، فقد حافظ على اعتداله حتى الآن في التعامل مع الملف الإيراني، وهو صرّح بأنه سيتريث في اتخاذ موقفٍ، حتى يقرأ الاتفاقية كاملة، لكنه أشار إلى أنه "ينطلق في هذه القراءة من شكوك عميقة".
المرشح الرئاسي الجمهوري جيب بوش وصف الاتفاق بأنه "خطير ولا يعكس دبلوماسية بل ترضية للنظام الإيراني"، ما يعني أنه قريباً سيبدأ الجمهوريون بربط هيلاري كلينتون بالتسوية مع إيران، لإضعاف فرصها الرئاسية وفق اعتقادهم. في حال فوز الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية، فإنه بوسع الرئيس المقبل، التملّص من الاتفاق، بما أنه ليس هناك معاهدة أو اتفاقية رسمية، وبالتالي يمكنه إصدار قرارات تنفيذية جديدة، تُلغي مفاعيل هذه التسوية.
مع العلم أن هناك مخاطرة في هذا الأمر، فالبيت الأبيض يرى أنه قبل نهاية عهد أوباما ستكون الاتفاقية شبه منجزة، وما على الرئيس المقبل سوى متابعة التزام إيران بالاتفاق، وبالتالي يسود اعتقاد بأن هذه التسوية ستُصبح أمراً واقعاً وعلى الرئيس المقبل التعامل معه، وإلا فستواجه واشنطن عزلة دولية في حال استمرت إيران بتنفيذ التزاماتها.
اقرأ أيضاً ما بعد الاتفاق النووي: ملامح علاقات دولية جديدة