تأخذ الأزمة اللبنانية منحى سجالياً في فرنسا، في أعقاب انفجار مرفأ بيروت وزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى العاصمة بيروت؛ فبينما انحصرت الانتقادات لماكرون في بادئ الأمر في إطار وسائل التواصل الاجتماعي، معتبرة أنه يهرب من أزمات بلاده ويحاضر باللبنانيين في الحرية والثورة في مقابل منع التظاهرات في بلاده، انتقل هذا السجال لاحقاً إلى وسائل الإعلام مع نشر موقع "ميديا بارت" الفرنسي تحليلاً، انتقد فيه سياسة المجتمع الدولي، وفرنسا على وجه الخصوص، تجاه لبنان.
وفي مقال لروماريك غودان، اعتبر "ميديا بارت" أن فرنسا تأخذ على عاتقها دور المدافع عن "خط ليبرالي جديد" يتمثّل بإصلاحات يطالب بها صندوق النقد الدولي.
ويقول غودان، في 8 تموز/يوليو، إن وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان وجه أمام أعضاء مجلس الشيوخ نداءً إلى "أصدقائه اللبنانيين" بالقول: "نحن مستعدون لمساعدتكم حقاً، لكن ساعدونا لنساعدكم، اللعنة". وبعبارة أخرى "قوموا بإصلاحات وستحصلون على المال"، لكن كل هذا يشبه السيناريو اليوناني، إذ ستغرق البلاد في إفقار عام جديد يؤدي إلى انهيارها كلياً، بعد أكثر من 30 عاماً من الحرب الأهلية، وبالتالي فرصة لتعميق "الليبرالية الجديدة" التي تسعى القوى الكبرى إلى تطبيقها في لبنان.
ويقول الكاتب أنه برغم ذلك، فإن الأزمة الحالية في لبنان ليست نتيجة سوء الحظ أو جائحة كورونا أو الاحتجاجات، أو حتى الأزمة السورية التي دفعت مليون لاجئ إلى ذلك البلد، بل إنها ثمرة نموذج تنموي نيوليبرالي عميق، بدأ بعد الحرب الأهلية بقيادة رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، الذي اغتيل في عام 2005 ، وسعد الحريري، نجله، الذي أطيح به من السلطة في يناير/كانون الثاني الماضي بسبب الاحتجاجات. ولفهم كل هذا، علينا العودة إلى اليوم التالي للحرب الأهلية، في 1990-1991.
في ذلك الوقت، كان لبنان، الذي اعتبر في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي "سويسرا الشرق الأوسط"، بلداً لا تسفك فيه الدماء، لكن بفعل الحرب الأهلية، والاختفاء الفعلي للدولة، وتقسيمها من قبل مصالح الفصائل والدول المجاورة، أصبح الاقتصاد غير قابل للإدارة. بطبيعة الحال، تفتقر البلاد إلى كل شيء، وبالتالي يتعين عليها استيراد كل شيء، وهذا الأمر أدى إلى تضخم مفرط هدد دوماً بانهيار الليرة.
وفي ظل هذه الظروف، الفكرة التي دافع عنها عدد من رجال الأعمال، بدءاً برفيق الحريري، هي المراهنة على كل شيء في قطاعين: العقارات الفاخرة والتمويل. بفضل شبكاتهم في دول الخليج، يأملون في تمويل إعادة الإعمار من خلال البترودولار مع إغرائهم باحتمالات الأرباح السخية. بذلك، أصبح التجار اللبنانيون وسطاء بين العالم العربي والغرب، باقتصاد أكثر تمويلاً، وهذا كان نموذجاً مناسباً للنيوليبرالية.
ويتابع الكاتب في تحليله بالقول، إن "لبنان يمكن أن يصبح موضوع دراسة حالة نادرة من نوعها، ونتذكر أن خصوصية النيوليبرالية تكمن في الدولة الموضوعة في خدمة رأس المال، وستستخدم الدولة اللبنانية لهذا الغرض مثلها مثل غيرها".
ويضيف: "في 1991، صوّت مجلس النواب على نقل ملكية عشرات الآلاف من صغار الملاك في وسط بيروت إلى شركة تطوير عقاري (سوليدير)، يملكها مستثمرون من دول عربية ولبنان، بمن فيهم الحريري، وسيتضاعف هذا النوع من النقل، كما يؤكد المؤرخ المتخصص في شؤون لبنان بجامعة ليفربول هانيس باومان، في نص صدر في كانون الثاني/يناير 2019 ،وتم وضع مجلس الإنماء والإعمار، الذي تم إنشاؤه في الستينيات لتعزيز دور الدولة، في دائرة الضوء لخدمة هذا التطوير العقاري، وتدريجياً، تم هدم وسط بيروت التاريخي لإفساح المجال لمجمعات عقارية فاخرة كبيرة".
لكن مثل هذه الاستراتيجية لا يمكن أن تعمل إلا بعملة قوية ومستقرة، إذ لن يأتي المستثمرون الأجانب لاستثمار ثرواتهم في لبنان ثم يفقدونها في عمليات تخفيض قيمة العملة، لذلك كان من الضروري تثبيت العملة، وتم ذلك في ديسمبر/كانون الأول عام 1997، عندما تم تحديد سعر صرف الليرة عند 1500 مقابل الدولار بعد توكيل مصرف لبنان بهذه المهمة ووضع السياسات اللازمة لتحقيق هذا الهدف. هكذا أمل القادة اللبنانيون في اصطياد أكثر من طير بحجر واحد: ليس فقط تفضيل العقارات، بل القطاع المالي أيضاً، وإنهاء غلاء المعيشة عن طريق خفض أسعار الاستيراد.
باختصار، إنها استراتيجية "الجريان السطحي" الكلاسيكية المطبقة في لبنان؛ لم يكن لبنان استثناءً في هذا الوقت، وهذا هو اختيار العديد من البلدان الناشئة آنذاك، مثل بلغاريا أو كرواتيا أو ألبانيا أو الإكوادور، على سبيل المثال.
ويقول الكاتب إن "النظام" في لبنان صمد بأفضل ما يمكن، ولكن، كما يشير هانيس باومان، تتخذ الرأسمالية اللبنانية بشكل متزايد شكلاً ريعياً خاصاً تماماً بالنيوليبرالية، ولكن تم دفعها إلى مستويات عالية جداً في هذا البلد. وفي حين أن المواطن اللبناني العادي بالكاد يستطيع الاستثمار أو العيش في المساكن الفاخرة التي بناها المئات في بيروت، فإن الأغنياء حصدوا الفوائد الكاملة لسياسات بنك لبنان.