يعبّر المناضل والمربي الفلسطيني أكرم زعيتر (1909 - 1996) عن نخبة وعت باكراً أدوارها الطليعية التي يمكن أن تؤدّيها في مرحلة حرجة، تقاسمت خلالها القوى الاستعمارية البلدان العربية، وتوالت فيها الهجرات اليهودية إلى فلسطين.
عادةً ما يجري الاهتمام بسيرة وتجربة زعيتر الذي تعدّدت أدواته بين العمل السياسي والصحافي والتربوي، من باب انتمائه العروبي، وانتسابه إلى "حزب الاستقلال" الذي آمن بوحدة العرب ومقاومة المستعمر، بل إن المستعرب الصهيوني أهارون حاييم كوهين يعدّه "قومياً متطرّفاً" إلى جانب شكيب أرسلان.
كما يُستعاد دائماً بالإشارة إلى أن نضالاته واحدة في كلّ الأمكنة التي تنقّل بينها، إذ قاد الإضرابات ضدّ الاستعمار الإنكليزي في فلسطين، وانخرط في ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941، وشارك في تأسيس "عصبة العمل القومي" في سورية، ونظّم سلسلة محاضرات حول قضايا سياسية وفكرية أثناء إقامته في بيروت. الأهمّ أن صاحب كتاب "القضية الفلسطينية" (1955) سجّل يومياته بالتفصيل، مدوّناً كل لحظة مرّ بها في حياته بدقّة ونزاهة غير متناهيتين، ومعلّقاً على بعضها ومستخلصاً منها العبر والدروس، وهي جميعاً مهام المؤرّخ الذي لا يفوته تدوين الخبر وتأويله.
إلى جانب مؤلّفاته العديدة، صدر حديثاً عن سلسلة "ذاكرة فلسطين" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب "يوميات أكرم زعيتر: سنوات الأزمة 1967-1970"، وهو جزء من يومياته يدوّن فيه وقائع سنوات صعبة، هي سنوات الأزمة الممتدّة بين هزيمة حزيران وصدامات أيلول بين الجيش الأردني والفدائيين الفلسطينيين.
تُنشر هذه اليوميات لأول مرّة بعد مرور نصف قرن على الأحداث التي يرصدها، وقد أعّدها الباحث معين الطاهر بالاشتراك مع نافذ أبو حسنة وهبة أمارة. يحمل العمل قيمة استثنائية لأسباب عدّة، إذ إن صاحبه هو أحد العارفين بأدق تفاصيل السياسة الأردنية والفلسطينية آنذاك، كما أنه يحظى باحترام وتقدير من جميع القوى والفاعلين الذين تمثّلهم.
لكن الأهمّ من ذلك، أن هذه السنوات الأربع لم يتصدّ لها مؤرّخ يوازي زعيتر في موضوعيته ومصداقيته، حيث بقيت أسيرة روايات منحازة، سواء في تلك المتعلّقة بتفسير الهزيمة وتداعياتها ومقاربة نتائجها، أو المتّصلة بالصراع الذي نشب بين الأردنيين والفلسطينيين عام 1970، ولم تجر مراجعته إلى اليوم.
شغل صاحب كتاب "يوميات الثورة الكبرى والإضراب العظيم" عضوبة مجلس الأعيان الأردني، حينذاك، ثم عيّن وزيراً للبلاط عقب حرب 1967، كما أمضى جزءاً منها في بيته مراقباً للشأن العام وعلى اتصال مع شبكة واسعة من الشخصيات الأردنية والفلسطينية والعربية والأجنبية، مطلاً على بعض مراكز صنع القرار العربي التي تفسّر بدورها كثيراً من الوقائع.
يقدّم زعيتر في الفصل الأول "عام 1967"، تفصيلات كواليس السياسة الأردنية عشية اندلاع الحرب مع إسرائيل، ومضمون البرقيات المتداولة أثناء المعركة، واتجاه الأردن إلى تشكيل حكومة عسكرية، ثم تأليف بهجت التلهوني الوزارة، ورحلته إلى البلدان الإسلامية، وعودته منها إلى عمّان.
ويتناول الفصل الثاني "عام 1968"، توجّه عمّان إلى الاتحاد السوفييتي طلباً للسلاح، بعد الحظر الأميركي على تسليح الجيش الأردني، والاشتباك مع العدو في التاسع من فبراير/شباط، والتوتر بين إيران وبلدان الخليج، والغارات الإسرائيلية في السابع عشر من الشهر نفسه، وأيضاً المحاولة الإسرائيلية لإقامة إدارة مدنية في الضفّة الغربية، ونسف الطائرات في مطار بيروت.
في الفصل الثالث "عام 1969"، يستعرض الاعتصام في كنيسة القيامة، الذي نفّذته جمهرة من السيّدات المسلمات والمسيحيات، واللواتي قرّرن عدم تناول الطعام حتى يتم الجلاء عن الضفّة الغربية، كما يتحدّث عن تكليف عبد المنعم الرفاعي بتأليف الحكومة الأردنية الجديدة حينها، وشن إسرائيل غارة جوية في 26 مارس/آذار على منطقة استراحة عين حريز الواقعة على طريق السلط - وادي شعيب، أدّت إلى استشهاد ثمانية عشر شخصاً، وجرح خمسة وعشرين، وإحراق الأقصى في آب/ أغسطس.
أما الفصل الرابع "عام 1970"، فيتحدّث عن انتقال القيادة الفلسطينية من أحمد الشقيري إلى ياسر عرفات، والمباحثات بين الفدائيين والحكومة الأردنية، وجمعية الكفّ الأسود، والاشتباكات بين الجيش الأردني والفدائيين الفلسطينيين، ووضع العراق جيشه تحت تصرُّف الملك حسين، وتوتُّر علاقة وصفي التل بالفدائيين، ثم محاولة اغتيال الملك حسين في الأول من سبتمبر/أيلول، وتكليف أحمد طوقان بتأليف حكومة مدنية، وزيارة الملك الأردني إلى القاهرة، وتشكيل لجنة عربية للإشراف على وقف إطلاق النار، ثم وفاة جمال عبد الناصر، ثم انقلاب حافظ الأسد في سورية، وتجدُّد إطلاق الرصاص في عمّان، واندلاع الاشتباكات في جرش، ثم جمع سلاح الفدائيين.