02 نوفمبر 2024
"وينو البترول؟" في تونس
"وينو البترول؟" شعار ملأ الدنيا وشغل الناس في تونس هذه الأيام، ففي المقهى، كما في البيت، وفي الشارع كما في الجامعة، وفي المدن كما في القرى والأرياف، وفي وسائل الإعلام كما في شبكات التواصل الاجتماعي، يكرر عدد مهم من المواطنين التونسيين الأسئلة نفسها: ما حجم الثروات الطبيعية في تونس؟ ما هي الأطراف المشرفة على استخراج الموارد الطاقية وتصريفها وترويجها؟ ما نسبة مداخيل الدولة من تلك الثروات، وما نصيب المواطن منها؟ وما موقع الشركات الاستثمارية من ذلك كله؟ وعلى أي أساس جرى إبرام عقود طويلة المدى مع شركات دون أخرى؟ ما هي المعايير المعتمدة في هذا الخصوص؟ وحتى متى تظل البلاد مرتهنة للخارج في إدارة مواردها الطبيعية الذاتية؟
انتشرت هذه الأسئلة الحيرى وغيرها، بشكل لافت للنظر، في تونس، على امتداد الأسابيع القليلة الماضية، وأخبرت برغبة ملحة لدى المواطنين في فتح ملفات الطاقة، ومعرفة آليات التصرف فيها. والمراد الوقوف على مقدرات البلاد الطبيعية الحقيقية، والوعي باستراتيجيات الحكومة وسياساتها في هذا الشأن، وإدراك حجم الفساد والحوكمة في هذا المجال. وشُبّه لبعض المراقبين، في البداية، أن حملة "وينو البترول" مجرد حملة نقدية، دعائية، ساخرة، لن تتجاوز حدود الفضاء الإلكتروني/الافتراضي، لكن الواقع أثبت خلاف ذلك، فقد تعدت الحملة شبكات التواصل الاجتماعي، لتتحول إلى حركة احتجاج شبابي، شعبي في عدد من المحافظات في وسط البلاد وجنوبها، وفي شارع الحبيب بورقيبة، وأمام المسرح البلدي في العاصمة. وبدا أنّ الحملة باقية وتتمدد من يوم إلى آخر، مستقطبة عددا معتبرا من المواطنين الذين تجاوزوا اختلافاتهم الأيديولوجية والسياسية، وتبايناتهم الطبقية والعمرية والجهوية، واجتمعوا تحت راية "وينو البترول؟" التي تفرعت عنها أسئلة شقيقة شتّى، من قبيل "وينو الماء؟"، "وينو الملح؟" "وينو الفوسفات؟" وجميعها تصب في خانة مساءلة الحكومة وأصحاب القرار في البلاد ومطالبتهم بالشفافية ومصارحة الشعب في شأن ثروات تونس الخضراء، التي درج المؤرخون على تسميتها "مطمور روما".
وبدل أن يلتفت الائتلاف الحاكم (نداء تونس، حركة النهضة، آفاق، الاتحاد الوطني الحر) إلى مطالب المحتجين، ويتفاعل معها بطريقة تفهمية، تبحث في أسباب الحراك الاحتجاجي وغاياته، انصرف قادة أحزاب ممثلة في الحكومة إلى مصادرة حق السؤال حيناً، وإلى إدانة فعل الاحتجاج حينا آخر، وبلغ الأمر ببعضهم درجة تجريم الحملة، أو اعتبارها وهماً يؤذن بالفوضى، وعدّها آخرون مؤامرة دبرت بليل، وحيكت بحنكة، وتوسلت المال الفاسد من الداخل والخارج، لإطاحة حكومة الحبيب الصيد. ونشطت آلة الإعلام المقرّب من السلطة في ترويج هذه الفزّاعة، وكان القصد شيطنة الاحتجاج على كيفٍ ما، وإدارة الظهر إلى مشكلات الناس، والهروب إلى الأمام، تأسيا بسياسات عهد قديم، ظن المواطنون أنه ولى وانقضى.
والحقيقة أن الاحتجاج المشهود بمناسبة حملة "وينو البترول" لم يكن بدعة، ولم يحصل اعتباطاً، ولم يأت من الخارج، بل صدر من الداخل، ونتج عن عدة أسباب موضوعية، لعل أهمها عدم نجاح الحكومات المتعاقبة بعد الثورة في تحويل شعار "شغل-حرية-كرامة وطنية" إلى واقع يحياه الناس، فما زال شباب كثيرون يعانون ويلات البطالة، وما زال توزيع الثروات بشكل عادل مطلباً معلقاً، وما زال تهميش الجهات الطرفية في الجنوب، والوسط، والشمال الغربي، أمراً واقعاً، حتى إن مناطق ظل كثيرة، تفتقر إلى المرافق الضرورية ومقومات العيش الكريم، على الرغم من انتصاب شركات التنقيب عن النفط، ومناجم الفوسفات، ومقاطع الملح فيها، ولسان حال أهالي تلك المناطق يقول: "حتى متى خيرنا يذهب إلى غيرنا؟".
يُضاف إلى ذلك أنّ وعود السياسيين، بعد الثورة، بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ظلت، في الغالب، مجرد شعارات انتخابية. وبالمقابل ازدهرت صناعة الفساد والبيروقراطية الإدارية والمحسوبية، وبقي ملف الثروات الطاقية والموارد الطبيعية ملفاً ملغزاً، ومجالا مغلقاً تتفادى السلطات الحاكمة والجهات المسؤولة الكشف عن تفاصيله للعموم. وهو ما زاد في تعميق أزمة الثقة بين الدولة والمواطن، وأغرى بالاحتجاج. ويمكن القول، من منظور أنتروبولوجي/نفساني، أن حملة "وينو البترول" صرخة احتجاج في وجه نخب حاكمة استأثرت باتخاذ القرار وتوزيع الثروة على هواها، عقوداً بعد الاستقلال، فلم يتم إعلام المواطن، ولا استشارته، ولا إشراكه في صفقات التعاقد بين الدولة والشركات الأجنبية، بل تم ذلك في كنف التكتم والسرية، لخدمة مصالح أطراف معنية. وتخبر الحملة بتشكل وعي سياسي شعبي مسؤول، يؤمن بضرورة مراقبة النظام الحاكم، ومحاسبته، ومساءلته، والاحتجاج عليه بطريقة سلمية ديمقراطية، ويؤمن بأهمية إشراك المواطن في الشأن العام، وإطلاعه على سياسات الدولة واستراتيجياتها خدمة لمطلب الشفافية، والنزاهة وضمانا لحق النفاذ إلى المعلومة تحت سماء ما يسميها عزمي بشارة "دولة المواطنين".
"جئت إلى هذا العالم كي أحتجّ"...هكذا حدث مكسيم غوركي ذات يوم، وفي تونس/الثورة ما زال الاحتجاج ممكناً، وما زال السؤال مشروعاً: "وينو البترول؟"