تميل المخرجة البولندية ماوجورزاتا شموفسكا (1973)، خاصة في أفلامها الروائية، إلى تناول كلّ ما يتعلق بتقلّبات النفس البشرية، وتداعياتها في المجتمع البولندي، شديد المُحافظة والانغلاق والتديّن. بارعةٌ في رصد نقاط عديدة بالغة العمق والثراء، تضيء هذه النفس بمستوياتها المختلفة، وترصد التبعات الاجتماعية الناجمة عن الاضطرابات النفسية.
في "جسد" (2015) ـ الفائز بجائزة "الدبّ الفضي أفضل إخراج" مناصفة مع "أفاريم" للروماني رادو جود، في الدورة الـ65 (5 ـ 15 فبراير/ شباط 2015) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)" ـ تحاول تقديم خليط درامي عميق بين النفسي والتأملي والإنساني، طارحة عبره الصعوبات التي يُواجهها الإنسان في علاقته بنفسه والحب والألم النفسي والوحدة وفقدان الآخر أو خسارته، وأيضًا الصلات الهشّة والمُتقطِّعة بين الأفراد. في الوقت نفسه، تتعَرّض للعلاقة بين العقلانية والإيمان، والطاقة الروحانية للكون وقدرتها على العلاج.
في "وجه" (2018) ـ الفائز بـ"الجائزة الكبرى للجنة التحكيم" في الدورة الـ68 (15 ـ 25 فبراير/ شباط 2018) لـ"برليناله" أيضًا ـ تلجأ، على نحو ملحوظ، إلى الكوميديا التي تلامس الـ"فَارْس" الصريح في مواضع مختلفة، وتميل إلى خلق دراما بسيطة وسهلة للمُشاهد العادي، غير خالية من العمق. صحيح أنها تجنح إلى التراجيديا، خاصة في النصف الثاني منه، لكن "وجه" غير ساقط في الميلودرامية. باختصار، أمكن لماوجورزاتا شموفسكا وشريكها في كتابة السيناريو ميكال إنجلرت خلق التوازن المطلوب، وتحقيق المُعادلة الصعبة بين هذه الأنواع. ورغم نجاتها من فخّ التركيب والتعقيد، كما في أفلامها السابقة، إلا أنه كان يُمكنها إفساد تركيبة الفيلم، لفرط بساطته ومُباشرته.
انطلاقًا من فكرة مشغولة سابقًا يعرفها المُشاهِدون الغربيون والعرب، مرتكزة على تغيير الوجه البشري بسبب حادثة طارئة، بَنَتِ ماوجورزاتا شموفسكا فيلمها هذا المنقسم إلى نصفين: رصد كلّ صغيرة وكبيرة قبل الحادث ثم كلّ ما وقع بعده، في بناء خطي تقليدي يُبرز في سهولة ويُسر التناقض بين ما قبل وما بعد. في "وجه"، لم تبتعد المخرجة كثيرًا عن خطها المُعتاد. فقط شدَّت خيوط اهتماماتها على اتّساعها، وأسقطتها على خلفية الحياة والمجتمع في بولندا، فإذا بإدانتها تطاول الجميع، بدءًا من الأسرة الصغيرة، ثم البلدة وأفرادها، المُرادفَين للمجتمع البولندي، وانتهاءً بالسياسة والرأسمالية. وأيضًا إدانة الكنيسة، والسخرية من التديّن الزائف في المجتمع وازدواج المعايير.
من المَشهَد الافتتاحي، تضرب ماوجورزاتا شموفسكا بقوة ومُباشرة ومن دون هوادة، لتمسّ الأعصاب العارية. فيه، احتشد جمعٌ أمام أحد المتاجر الضخمة، ليكونوا أول من يدخل للحصول على السلع بأبخس الأثمان أو مجانًا في تخفيضات الأعياد. تظهر هنا مدى بشاعة البشر وحيوانيتهم جراء تحوّلهم الاستهلاكي. يتقاتلون فيما بينهم لخطف المُنتجات من أيدي بعضهم البعض.
اقــرأ أيضاً
يحدث الانتقال من هذا المشهد إلى آخر يكشف التناقض الصارخ في الكنيسة، عشيّة احتفالات العام الجديد، ورغبة البلدة في جمع المزيد من التبرعات لاستكمال إنشاء أضخم تمثال ليسوع المسيح، ليكون الأكبر في أوروبا، ويُضاهي ذاك الموجود في البرازيل، ما يضع اسم بلدتهم على خريطة العالم. المُثير للانتباه أنه كان لدى بولندا التمثال الأضخم ليسوع المسيح، في إحدى البلدات، حتى أعوام قليلة ماضية.
يعمل المئات في هذا المشروع. "سأغضّ الطرف عن استعانتك بالعمّال المُسلمين الألبان"، يقول كبير الأساقفة لكبير الكهنة، في إشارة منه إلى عِلمِهِ بـ"الفساد" الدائر في تنفيذ المشروع. من بين العمّال، هناك شاب وسيم يُدعى ياتزيك (ماتيوش كشتيوكيتش)، يحظى بحبّ الجميع واحترامهم لطيبته وحبّه للغير وطبيعته المُسالمة والمُتسامحة. ترغب والدته في رؤيته متزوّجًا، وتريد شقيقته أن يعيش الحياة كما يريد، حتى أنها تحثّه على مغادرة البلدة. يتعرّف على فتاة جميلة اسمها داجمارا (ماوجورزاتا جورول)، فيُعجب بها ويحبّها، وتبادله هي المشاعر نفسها. بسرعة، يتّفقان على الزواج. ذات يوم عمل، يختلّ توازن ياتزيك فيهوي من فوق التمثال ويفقد وجهه. تُجرى له عمليات عديدة لنقل وجه إليه، هي الأولى في أوروبا. لكنه يخرج من المستشفى غير قادر على النُطق بوضوح، أو تناول الطعام أو الشراب. مَنظره مخيف للجميع، وهو محتاج إلى مزيد من العمليات الجراحية.
يبدأ ياتزيك في مواجهة الأمر والاعتياد على مظهره ووجهه ونبرة صوته، والتقليل قدر المُستطاع من قبح مظهره. لكنه لم يُفكّر مُطلقًا أن أول من سَينفر منه هم أفراد أسرته، وخاصة أمه، التي تُعلن صراحة أن هذا ليس ابنها وأنها لا تستطيع الشعور بالأمومة تجاهه، ولا التأقلم معه، وأنها تريد ابنها الحقيقي (أيّ أم هي؟). أبناء القرية يَعْدُون خلفه ويَسخَرون منه وينعتونه بالخنزير. الأصدقاء والأقارب يتهرَّبون منه ويصفونه بالمسخ المُشوَّه، ويتهكّمون عليه لصعوبة تناوله الطعام من دون مساعدة أحد. داجمارا تهجره، بعد زيارته في المستشفى، وتبدأ حياة جديدة مع آخر. شقيقته هي الوحيدة التي بقيت كما هي، تُسانده وتشدّ من أزره، وتُفسّر ما يقوله للناس، وتُدافع عنه بكلّ قوة.
تتعقّد الأمور أكثر مع رفض الدولة دفع تكاليف العلاج والعمليات لياتزيك. بعد تعرية الدولة، تُعَرِّي ماوجورزاتا شموفسكا مُجتمعه الصغير، الذي لجأ إليه لاقتراض المال، لكنه كشف عن وجهه الأناني العنصري القاسي. يأتيه الحلّ عبر فرصة عمل. الرأسمالية الشرهة لكل جديد مُغاير تجتذبه للعمل في مجال الإعلانات الرخيصة عن مُنتجات تافهة. بعد تسليط الأضواء عليه، يصير نجمًا رغم بشاعته، ويتهافت الجميع على التقاط الصُوَر معه.
وسط كلّ هذا الزيف والرياء والقُبح الذي اكتشفه، وفي نوع من "المُواجهة" (العنوان الثانوي للفيلم)، يُحقّق ياتزيك أُمنية شقيقته في الرحيل بوجهه هذا عن المُجتمع الممسوخ والمُشوّه.
في "وجه" (2018) ـ الفائز بـ"الجائزة الكبرى للجنة التحكيم" في الدورة الـ68 (15 ـ 25 فبراير/ شباط 2018) لـ"برليناله" أيضًا ـ تلجأ، على نحو ملحوظ، إلى الكوميديا التي تلامس الـ"فَارْس" الصريح في مواضع مختلفة، وتميل إلى خلق دراما بسيطة وسهلة للمُشاهد العادي، غير خالية من العمق. صحيح أنها تجنح إلى التراجيديا، خاصة في النصف الثاني منه، لكن "وجه" غير ساقط في الميلودرامية. باختصار، أمكن لماوجورزاتا شموفسكا وشريكها في كتابة السيناريو ميكال إنجلرت خلق التوازن المطلوب، وتحقيق المُعادلة الصعبة بين هذه الأنواع. ورغم نجاتها من فخّ التركيب والتعقيد، كما في أفلامها السابقة، إلا أنه كان يُمكنها إفساد تركيبة الفيلم، لفرط بساطته ومُباشرته.
انطلاقًا من فكرة مشغولة سابقًا يعرفها المُشاهِدون الغربيون والعرب، مرتكزة على تغيير الوجه البشري بسبب حادثة طارئة، بَنَتِ ماوجورزاتا شموفسكا فيلمها هذا المنقسم إلى نصفين: رصد كلّ صغيرة وكبيرة قبل الحادث ثم كلّ ما وقع بعده، في بناء خطي تقليدي يُبرز في سهولة ويُسر التناقض بين ما قبل وما بعد. في "وجه"، لم تبتعد المخرجة كثيرًا عن خطها المُعتاد. فقط شدَّت خيوط اهتماماتها على اتّساعها، وأسقطتها على خلفية الحياة والمجتمع في بولندا، فإذا بإدانتها تطاول الجميع، بدءًا من الأسرة الصغيرة، ثم البلدة وأفرادها، المُرادفَين للمجتمع البولندي، وانتهاءً بالسياسة والرأسمالية. وأيضًا إدانة الكنيسة، والسخرية من التديّن الزائف في المجتمع وازدواج المعايير.
من المَشهَد الافتتاحي، تضرب ماوجورزاتا شموفسكا بقوة ومُباشرة ومن دون هوادة، لتمسّ الأعصاب العارية. فيه، احتشد جمعٌ أمام أحد المتاجر الضخمة، ليكونوا أول من يدخل للحصول على السلع بأبخس الأثمان أو مجانًا في تخفيضات الأعياد. تظهر هنا مدى بشاعة البشر وحيوانيتهم جراء تحوّلهم الاستهلاكي. يتقاتلون فيما بينهم لخطف المُنتجات من أيدي بعضهم البعض.
يحدث الانتقال من هذا المشهد إلى آخر يكشف التناقض الصارخ في الكنيسة، عشيّة احتفالات العام الجديد، ورغبة البلدة في جمع المزيد من التبرعات لاستكمال إنشاء أضخم تمثال ليسوع المسيح، ليكون الأكبر في أوروبا، ويُضاهي ذاك الموجود في البرازيل، ما يضع اسم بلدتهم على خريطة العالم. المُثير للانتباه أنه كان لدى بولندا التمثال الأضخم ليسوع المسيح، في إحدى البلدات، حتى أعوام قليلة ماضية.
يعمل المئات في هذا المشروع. "سأغضّ الطرف عن استعانتك بالعمّال المُسلمين الألبان"، يقول كبير الأساقفة لكبير الكهنة، في إشارة منه إلى عِلمِهِ بـ"الفساد" الدائر في تنفيذ المشروع. من بين العمّال، هناك شاب وسيم يُدعى ياتزيك (ماتيوش كشتيوكيتش)، يحظى بحبّ الجميع واحترامهم لطيبته وحبّه للغير وطبيعته المُسالمة والمُتسامحة. ترغب والدته في رؤيته متزوّجًا، وتريد شقيقته أن يعيش الحياة كما يريد، حتى أنها تحثّه على مغادرة البلدة. يتعرّف على فتاة جميلة اسمها داجمارا (ماوجورزاتا جورول)، فيُعجب بها ويحبّها، وتبادله هي المشاعر نفسها. بسرعة، يتّفقان على الزواج. ذات يوم عمل، يختلّ توازن ياتزيك فيهوي من فوق التمثال ويفقد وجهه. تُجرى له عمليات عديدة لنقل وجه إليه، هي الأولى في أوروبا. لكنه يخرج من المستشفى غير قادر على النُطق بوضوح، أو تناول الطعام أو الشراب. مَنظره مخيف للجميع، وهو محتاج إلى مزيد من العمليات الجراحية.
يبدأ ياتزيك في مواجهة الأمر والاعتياد على مظهره ووجهه ونبرة صوته، والتقليل قدر المُستطاع من قبح مظهره. لكنه لم يُفكّر مُطلقًا أن أول من سَينفر منه هم أفراد أسرته، وخاصة أمه، التي تُعلن صراحة أن هذا ليس ابنها وأنها لا تستطيع الشعور بالأمومة تجاهه، ولا التأقلم معه، وأنها تريد ابنها الحقيقي (أيّ أم هي؟). أبناء القرية يَعْدُون خلفه ويَسخَرون منه وينعتونه بالخنزير. الأصدقاء والأقارب يتهرَّبون منه ويصفونه بالمسخ المُشوَّه، ويتهكّمون عليه لصعوبة تناوله الطعام من دون مساعدة أحد. داجمارا تهجره، بعد زيارته في المستشفى، وتبدأ حياة جديدة مع آخر. شقيقته هي الوحيدة التي بقيت كما هي، تُسانده وتشدّ من أزره، وتُفسّر ما يقوله للناس، وتُدافع عنه بكلّ قوة.
تتعقّد الأمور أكثر مع رفض الدولة دفع تكاليف العلاج والعمليات لياتزيك. بعد تعرية الدولة، تُعَرِّي ماوجورزاتا شموفسكا مُجتمعه الصغير، الذي لجأ إليه لاقتراض المال، لكنه كشف عن وجهه الأناني العنصري القاسي. يأتيه الحلّ عبر فرصة عمل. الرأسمالية الشرهة لكل جديد مُغاير تجتذبه للعمل في مجال الإعلانات الرخيصة عن مُنتجات تافهة. بعد تسليط الأضواء عليه، يصير نجمًا رغم بشاعته، ويتهافت الجميع على التقاط الصُوَر معه.
وسط كلّ هذا الزيف والرياء والقُبح الذي اكتشفه، وفي نوع من "المُواجهة" (العنوان الثانوي للفيلم)، يُحقّق ياتزيك أُمنية شقيقته في الرحيل بوجهه هذا عن المُجتمع الممسوخ والمُشوّه.