جذور المفهوم: كينيدي كان انعزاليًّا
مفهوم "الانعزاليّة" المراد هنا هو ذلك الذي تمّ صكّه في ثلاثينيّات القرن الماضي، كما يشرح كاتب المقال، وهو يحيل إلى الأميركيين الذين أرادوا البقاء على الحياد في زمنٍ كانت الحرب فيه تلوح في الأفق، مع الإبقاء على نمط محدود من التواصل مع العالم، كالمحافظة على خطوط التجارة، والدفاع عن البلاد إزاء أي تدخّل أجنبي. ما كان يوحّد أصحاب هذه الرؤية، في ذلك الوقت، هو التوجّس من دخول حرب ثانية، بعد أن رأوا الدّمار الذي خلّفته الأولى.
الأميركيون الأوائل، كما يخلص الكاتب في أبحاثه، كانوا مناهضين للحرب أكثر من كونهم "مناهضين للساميّة" أو مؤيّدين للفاشيّة، وهي تهم يوظّفها منتقدو ترامب اليوم بـ"مغالاة كبيرة"، بحسب الكاتب، الذي يستدرك قائلًا: صحيح أنّ "المتحدّث باسم الجماعة" في حينها، الطيار تشارلز ليندبرغ، شنّ هجومًا على "النفوذ اليهودي" قبل أشهر من الهجوم على بيرل هاربر، غير أنّ ذاك الخطاب اللاذع المعادي للسامية أعاق الحراك (باتّجاه الحرب) بدلًا من حثّه. قلة من "الأميركيين الأوائل" ساندوا الدخول في الحلف العالمي، وفي مقابل الدعوات المؤيّدة للحرب، التي كانت ترى أن انخراط الولايات المتّحدة في صراع أوروبي كان مهمًّا لأمنها، طغت الدعوات المناهضة، وجذبت طيفًا سياسيًّا واسعًا، بما في ذلك الرؤساء المستقبليّون، جيرالد فورد وجون كينيدي.
ويضيف الكاتب أنّ ذلك النقاش وصل إلى حدوده النهائية بعد هجمات بيرل هاربل، وفي ذلك الوقت تحديدًا، صكّت النخب السياسية صفة "الانعزاليين" لإقصاء معارضي تدخّل الولايات المتّحدة في الحرب من حدود النقاش المشروع حولها.
الكثير من السيئين في الخارج
استنادًا إلى تلك المقدّمة التاريخية، يرى محلّل "واشنطن بوست" أن صفة "الانعزالي"، في الوقت الحالي، لا يمكنها أن تكون محقّة. هي، بالأحرى، غير منطقيّة عندما يتعلّق الأمر بحاكم البيت الأبيض الجديد، فترامب ليس انعزاليًّا؛ وبدلًا من السعي للانسحاب من العالم، هو يعمد إلى استغلاله، بعيدًا عن تقليص مناطق الحرب، ويطلق تهديداته على امتداد قارّات العالم تجاه خصومه، ويمجّد الانتصار العسكري. باختصار: الرئيس عسكرتاري، كما يلخّص معلّق الصحيفة.
يعرّف طيف واسع من المختصّين والباحثين "العسكرتارية" بأنها "تبجيل واستخدام القوة بشكل مفرط لأغراض سياسية"، أو حتّى استخدامها لذاتها، كما يستدرك الكاتب، وتمتدّ نزعة "العسكرتاريّة" في بعض الأحيان إلى السيطرة الكاملة على الدولة، ولا يمكن أن نغفل في هذا السياق أن ترامب عيّن في إدارته جنرالين من قوات "المارينز"، هما جيمس ماتيس للدفاع، وجون كيلي للأمن الداخلي. العسكرتارية، كما ينقل الكاتب عن المؤرخ ألفريد فاكتس، تعزز القيم "المرتبطة بالجيوش والحرب، وربّما تتجاوز أحيانًا بعض الأغراض العسكرية الحقيقية"، ويعقّب معلّق الصحيفة على ذلك قائلًا إن النزعة العسكرية يمكن أن تكون سياسة أو مُثلًا أخلاقية، ويمكن أن تفسد المساعي لتحقيق أهداف عقلانية. إزاء ذلك، يصبح مفهومًا، مثلًا، لماذا لا يزال الأميركيون يعتقدون أنّ دولتهم هي "قوّة سلام"، حتّى حينما تذهب نحو الحرب.
التمعّن في خطاب ترامب منذ ظهوره في المشهد السياسي قد يقدّم مؤشّرات على صحّة الافتراض السابق، كما يستنتج كاتب المقال، بدءًا من تصوّره الأساسي عن العالم بوصفه ساحة تمزّقها صراعات الحضارات والنزاعات التي لا مناص منها. صعود ترامب إلى السلطة كان مقرونًا بتسويق خطاب الرعب إزاء الأعداء، من المكسيك مرورًا بإيران والصين وحتّى "إرهاب الإسلام الراديكالي" (وأحيانًا الإسلام ذاته). حتى الاتحاد الأوروبي ذاته لم ينجُ من مقاربة ترامب الصفرية، فهو يصوّره على أنّه "وسيلة ألمانية للتغلب على الولايات المتّحدة تجاريًّا"، وليس جهدًا أوروبيًّا لتأمين السلام بعد حربين عالميتين داميتين. السلام، كما يلاحظ الكاتب، يبدو هشًّا وشاذًّا بالنسبة لترامب، ويمكن قراءة ذلك من كلامه الذي كرره في أكثر مناسبة، حينما قال: "هناك العديد من الرجال السيئين في الخارج".
شعبوي دخيل يخدم المستبدّين
يلاحظ الكاتب أن لدى ترامب شعورًا قويًّا بالمهانة والإساءة، وقد عبّر عنه حينما كرّر قوله "إن العالم يضحك علينا". هذا النوع من "التباكي"، كما يراه الكاتب، كان أكثر شيوعًا في الدول والحركات الثورية، وهو يبدو غريبًا على دولة تمثّل "القوة العظمى الوحيدة في العالم". الإمبراطورية اليابانية وألمانيا النازية لم تستحوذا على الأراضي من أجل جاذبيّتها فحسب؛ بل إن قادتهما تصرّفوا بدافع حالة يأس متصوّرة في دواخلهم، معتقدين أنهم كانوا يخسرون منافسة عنيفة على السلطة والمكانة.
وفي مواجهة هذا العالم "الوحشي"، وعد ترامب بقلب الطاولة، لا إدارة ظهره والنكوص بعيدًا. تحدّث عن الاستيلاء على ثروات العالم، وخاصّة نفط العراق، قائلًا لموظّفي وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه"، في الخطاب الذي ألقاه أمامهم: "ربّما سنحظى بفرصة أخرى هناك". ربّما يكون ترامب متكلّفًا، لكنّه في تكلّفه ذاك يصبح عسكرتاريًّا: الرغبة الجامعة تجاه النفط، النهم للتعذيب، تأمل العروض العسكرية أسفل شارع بنسلفانيا؛ كلّ هذه الأمور لا تحقّق غرضًا استراتيجيًّا بقدر ما تمجّد القوّة الغاشمة، كما يستنتج الكاتب، مضيفًا أن ترامب سبق أن قالها ذات مرة بوضوح أثناء حملته: "أنا الشخص صاحب النزعة العسكرية الأكبر على الإطلاق"، وربّما، على غير العادة، كان يقول الحقيقة.
في كل الأحوال، يرى الكاتب أن العسكرة الثقافية بالنسبة لترامب تبقى أمرًا قابلًا للملاحظة، حتّى إن لم تتحول إلى سياسة خارجية رسمية، فمن خلال رسم التكافؤ الأخلاقي بين الولايات المتّحدة وروسيا فلاديمير بوتين، ينبذ ترامب هوية أميركا التقليدية بوصفها "دولة استثنائية يشرق منها نور الحريّة إلى العالم". وفي حين يتجاهل الملياردير الأميركي "الآباء المؤسسين" للولايات المتّحدة؛ فإنه يقدّم هوية بديلة لأميركا من خلال استحضار "الأيام الخوالي للجنرال ماك آرثر والجنرال باتون"، وهما الجنرالان الأكثر تطرّفًا في منتصف القرن العشرين. لكنهما في مخيال ترامب الباحثان دائمًا عن "النصر المطلق"، وهما "الآباء المؤسّسون" الجدد بالنسبة له.
عطفًا على ذلك، حينما يميل جمهور المنتقدين إلى وصف سياسات ترامب بأنّها "سلميّة"، بعد أن وضع تحالفات أميركا العسكرية على المحكّ ومال للتعاون مع روسيا، فإنه بذلك يعزّز رسالته، كما يستنتج محلل الصحيفة، وهذا مردّه إلى أن تلك الانتقادات لا تظهر الملياردير الأميركي بمظهر المناهض لقيم المؤسسة فحسب؛ بل المناهض للحروب المكلفة. وفي مقابل ذلك، يرى الكاتب أن صفة "العسكرتاريّة" هي التي تجسّد بشكل أدق سلوك ترامب، وأنها تجلّي حقيقة الرجل التي يخشى الانكشاف أمامها: أنه مرشّح السلام الذي تحوّل إلى داعية حرب، والشعبوي الدخيل الذي أصبح يخدم تجار السلاح والأنظمة المستبدّة.
(العربي الجديد)