"وإذا خاصم فَجَرَ"...
تراكمت وتتالت، في الأشهر الأخيرة، في عالمنا العربي، بفضاءاته المادية والافتراضية، أشكال متعدّدة من معارك مفتعلة بين أطراف سياسية أو اتجاهات فكرية، أخذت طابعًا هزليًا، وخطابًا مبتذلًا، وروحًا انتقامية، وأوصافًا أخرى لا تقل سوءًا، يمكن أن تلخصها جميعًا العبارة النبوية "وإذا خاصم فَجَرَ"، وهي جزء من الحديث النبوي المروي في صحاح السنة في بيان خصال المنافقين، ونصّه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر". والفجور كلمة تجمع أسوأ المعاني الأخلاقية المذمومة مجتمعة، بدءًا من الميل عن الحق وليس انتهاءً بالكذب والافتراء، حتى يمكن القول إنها غاية خصال النفاق مجتمعة، وهي هنا في ما يبدو من سياق الحديث معايير أخلاقية أوسع من أن تقتصر على معنى النفاق الديني الذي هو بدوره نمطٌ من الانحطاط الأخلاقي الذي ينحدر إلى الكذب في الانتماء، فيما ينبغي أن يكون معبرًا عما في الضمير.
لكل خصومة مسلك أخلاقي يعالجها، والإعراض عن هذه المسالك، واستبدالها، هو الفجور
الفجور في الخصومة في سياقها العربي والإسلامي الراهن، وهي بالمناسبة لا تخصهم، ليست جديدة في عالمنا، إذ تحدّثنا كتب التاريخ عن خصوماتٍ دينيةٍ وسياسيةٍ كثيرة، حتى وصفها ضرار بن عمرو، في القرن الثاني الهجري، بطريقة ساخرة، وسمّاها "التحريش" في كتابٍ يحمل هذا العنوان، لكن الجديد في فجور الخصومة في عالمنا هو اتساع ابتذالها، وسهولة انتشارها، فزادت في الفجور مسالك لم تكن من قبل، حتى غدا الخُلُق الرفيع للمستهدفين بهذا الفجور، والممتثلين للهدي القرآني "وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا"، "وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا" قاصرًا عن ردع الفجور المُغلَّفِ بما يوهم أنه حقائق راسخة، تروّجها شخصياتٌ ومؤسساتٌ ومنصاتٌ إعلامية لا رقيب عليها ولا حسيب، حتى إنها لتقول الشيء ونقيضه بين حين وآخر، بل أصبح الفجور في الخصومة رسالتها.
الحديث عن ذم الفجور في الخصومة يعني لزومًا أن الخصومة بحد ذاتها ليست محل الذم ابتداء، إذ من الطبيعي أن توجد خصومة بين الأفراد والجماعات والدول، في كل القضايا والأفكار والاختيارات، ولكل خصومةٍ مسلك أخلاقي للتعامل معها يَحُولُ دون أن تتحوّل الخصومة إلى عداء، فالخصومة في الحقوق جُعل لها القضاء بالعدل، والخصومة في الأفكار والأديان جعل لها الجدال بالتي هي أحسن والبحث عن كلمة سواء، والخصومة بين الشركاء جعل لها التحكيم قبل القضاء، والخصومة بين القوي والضعيف جعل لها نصرة المظلوم وردع الظالم، والخصومة المبنية على الشائعات جعل لها التَّبَين. وهكذا لكل خصومة مسلك أخلاقي يعالجها، والإعراض عن هذه المسالك، واستبدالها، هو الفجور، سواء بافتعال الخصومة أو استدامتها جمعًا بين الرذائل.
لا يحتاج القارئ إلى أمثلة وشواهد من المشهد العربي على هذا الفجور، فهو يعيشها يوميًا وبالبث المباشر، فتارة نجده في خصومةٍ سياسية، حتى في مسرح العمل السياسي، بين اتجاهاتٍ مختلفة، تقتضي الحكمة أن يكونوا حلفاء في وجه من يستهدفهم معًا، أو في خصومةٍ دينيةٍ على أساس ديني أو طائفي أو مذهبي، أو في خصومة فكرية على أساس مرجعياتٍ أو تأويلاتٍ مختلفة، أو في خصومةٍ غير أخلاقية ابتداء، وهي التي تأخذ طابعًا عنصريًا على أساس عرقي أو قبلي أو مناطقي أو غير ذلك، أو جمعًا بين بعض هذه الخصومات أو كلها.
الخصومة في الحقوق جُعل لها القضاء بالعدل، والخصومة في الأفكار والأديان جعل لها الجدال بالتي هي أحسن والبحث عن كلمة سواء
لقد حطّمت الانبثاقة العفوية للربيع العربي قبل عشر سنوات أسطورة الثنائيات القاتلة التي كان يعتاش عليها المستثمرون في تمزيق المجتمع على أسس دينية أو طائفية أو قومية أو فكرية، ومضت فترة التقى فيها الناس من غير خلفياتٍ على قضايا تجمعهم، من دون أن يتخلوا عن اختياراتهم أو يضعوها شروطًا على الآخرين، لكن تلك الحقيقة الفاعلة والحية لدى عامة الناس أريد لها أن تبقى حلمًا أو وهمًا، فاغتيلت براءة الناس تلك، وأُلجئوا إلى محاضنهم الضيقة، فعاد الحي والدين والطائفة والعرق والحزب والتيار الفكري أو السياسي أو نزعة التمرّد العنيف على كل ذلك واجهةً للصراع وعنوانًا للخصومة مع فجورٍ فيها، لكن وعي الناس بالتعالي على هذا الفجور يتأكد، بين حين وآخر، عندما لا تتصدّر النخب المعتاشة على الصراع المشهد، ويُترَكُ للناس والأجيال أن يعبروا عن قناعاتهم وطموحاتهم، شهدنا ذلك عندما استؤنف الربيع في غير مكان من العالم العربي.
سرديات الخصومات الحديثة تطول، وفي غالب كل منها فجور، فدينيًا تحولت ثنائية مسلم/ كافر، من موقف تجاه الخالق إلى أحكام على الخلق تُبتذل تفاصيلها بين العامة، حتى سفكت باسمها الدماء المعصومة، ومثلها الثنائيات الطائفية والمذهبية في كل دين، والثنائيات تجاه الموقف من الدين والشأن العام، وأشهرها إسلامي/ علماني، في زمنٍ اتسعت في أطياف الإسلامي والعلماني، حتى أصبح الإسلامي يصف الإسلامي الآخر بالعلماني، والعلماني يصف العلماني الآخر بالإسلامي، والحال أن من يَفجر في الخصومة ممن يصنف نفسه من الإسلاميين يخون إسلامه الذي يدّعيه، ومن يفجر في الخصومة ممن يصنف نفسه من العلمانيين يخون ما ادّعاه من العلمانية.
أفجر الفجور أن يتحوّل المغتصب والظالم والمحتل من عدو إلى خصم بل إلى صديق
الحديث عن أخلاقيات إدارة الخصومة إنما هو في ما بين المختلفين في ظروفٍ تجمع بين الأطراف المختلفة، أدناها العيش معًا قدرًا أو اختيارًا، إذ تقتضي المبادئ والمصالح اختيار أرقى السبل لتحسين ظروف الجميع وحماية مصالحهم، لكن أفجر الفجور أن يتحوّل المغتصب والظالم والمحتل من عدو إلى خصم بل إلى صديق، ويُمتن على الضحية بهذا الفجور. وفي المقابل، أن يتحول الأخ والصديق والقريب والجار إلى خصم، بل إلى عدو تستباح بحقه كل الموبقات. حينها لا يسع المرء إلا أن يستحضر أخلاق المنافقين مجتمعة، ويسلك الطرق الحكيمة في إدارة الخصومة معهم في كل التفاصيل، وألا يقف المرء عند عنوانٍ واحدٍ يخفي، في الغالب، ما هو أخطر منه.