بدأت القصة بصورة. مراهق أفرو أميركي يقف بابتسامته الخجلى على رصيف في براونسفيل ببروكلين. وجه من آلاف وجوه النيويوركيين الذين يوقفهم براندن ستانتن بشكل يومي، ليصورهم ويحدثهم قليلاً، ثم ينشر صورهم على صفحته على "فيسبوك"، "هيومنز أوف نيويورك" Humans of New York.
يفوق عدد متابعي الصفحة 12 مليوناً. كلما وضع صاحبها صورة تنهمر اللايكات والتعليقات ومشاركة الصورة بعشرات الآلاف. في العادة، تحوز الصور ما لا يقل عن مائة ألف معجب، إضافة إلى سيل التعليقات المبتهجة بشخص مجهول يبتسم للكاميرا مع نص صغير من بضع عبارات يقولها ردا على سؤال براندن.
نجاح مدوّ قوامه وصفة بسيطة لكن لامعة: لكل إنسان قصة تستحق أن تروى. ما عليك إلا أن تسأل السؤال المناسب، وتصغي إلى الجواب. أرفق الكلام بالصورة التي تجمد فيها لحظة شعوره بأنه مميز وراض عن نفسه ويحبها.
الشاب الأبيض، الذي أتى قبل خمسة أعوام من شيكاغو عاطلاَ عن العمل يحمل كاميرا لكنه لا يجيد التصوير، نموذج الأميركي الودود الطيب الذي يبتسم طوال الوقت ويزيد من لطفه صوت أنثوي رفيع. هو نموذج من يمكن للمدينة الأشد غرابة وقسوة في العالم أن تلتهمه. لكنه بات أمين سرها، يؤرشف وجوه ناسها المجهولين كلهم، حافظا قصصهم الصغيرة الملأى بالخيبات والتحديات والأحزان والأفراح والحب والانكسارات.
بوصفة بسيطة قوامها الأمل، بات براندن يؤرشف حياة نيويورك. راوي الـ"فيسبوك" هذا غيّر مفهوم القصة وشكلها. جعلها إلى هذه الدرجة مختصرة، وإلى هذه الدرجة مفتوحة على المعلقين عليها كي يعيدوا تشكيلها بقصصهم وانفعالاتهم وحواراتهم المتناسلة من بعضها بعضاً.
مع فيدل، المراهق الأفرو أميركي الذي بدأ النص به، انتقلت صفحة هيومنز أوف نيويورك إلى بعد آخر، ونقلت الميديا إلى أفق مختلف أيضا.
مع الصورة، نشر براندن الحوار القصير التالي بينه وبين فايدل:
"- من الذي كان له التأثير الأكبر عليك في حياتك؟
- مديرتي في المدرسة، السيدة لوبيز.
- كيف كان ذلك؟
- عندما نقع (التلامذة) في ورطة، لا تفصلنا من المدرسة بل تأتي بنا إلى مكتبها وتشرح لنا كيف بني المجتمع حولنا. تقول إنه كلما ترك تلميذ مدرسته بنيت زنزانة جديدة. وفي مرة جعلت التلامذة يقفون واحدا بعد الآخر، لتقول لكل واحد إنه شخص مهم وله قيمة ومعنى.
ما إن نشرت الصورة حتى ارتفع عدد المعجبين بها بشكل مرعب، حتى تخطى المليون مع أكثر من مائة ألف مشاركة. وفتحت الصورة بابا لذكريات الأميركيين (خصوصاً) عن مدارسهم وعن حيواتهم في الأحياء الفقيرة ذات نسبة الجريمة المرتفعة وما عانوه، أو ما عاناه ذووهم، في سبيل متابعة التحصيل العلمي والخروج من حلقات الفقر المفرغة.
تعليقاً على الصورة فتح الأميركيون حديثاً مليئاً بالأفكار والذكريات والشجون سيئته الوحيدة أن من المستحيل متابعته كاملاً. فهناك أكثر من عشرين ألف تعليق أساسي ونقاشات متفرعة من التعليقات نفسها. القراءة العشوائية هي السبيل الوحيد، وكلها تصب في مديح لوبيز، التي لم ير أحد صورتها بعد، ولا يدري ما إذا كانت موجودة حقا، وما هو اسمها الأول.
براندن لا يضع تعليقات من دون صور ولا يخبر عما سيفعله لاحقاً مثلاً. إنه مصرّ على اللعبة نفسها. صور وحكايات. أكمل عادته في نشر صور أناس مختلفين. لكنه بعد ثلاثة أيام من نشر صورة فايدل، نشر صورة سيدة سوداء جالسة خلف مكتب (صوره كلها في الشوارع ومحطات المترو). ترتدي فستاناً بنفسجياً. إنها السيدة لوبيز. مديرة مدرسة "موتهول بردجز"، التي تقع في أسوأ أحياء بروكلين، حيث نسبة الجريمة الأعلى في نيويورك. ذهب المصور إلى قلب قصته إذن للمرة الأولى بعد خمس سنوات تقريباً من إطلاق الصفحة. الهستيريا ستبدأ الآن.
في الصورة الأولى حكت المربية عن أحلامها وتحدياتها. في الصورة التالية مجموعة من الطلاب الضاحكين. معها، أعلن براندن عن إطلاق حملة تبرعات للمدرسة. كان ولوبيز فكرا معا في ما يمكن فعله من أجل المدرسة. المديرة أرادت إطلاق حملة تبرعات لجمع مئة ألف دولار لتمويل رحلات لتلامذتها لزيارة جامعة هارفرد. تريدهم أن يروا ويلمسوا ويثقوا بأن بإمكانهم الوصول إلى إهم الجامعات والمناصب في أميركا. مئة ألف دولار كان الهدف. لكن كرة الثلج تدحرجت كما لم يتوقع أحد. المبلغ المطلوب جمع في 24 ساعة. وراح الرقم يكبر بينما القصة تتابع: المزيد من صور السيدة التي تجيد استدرار دموع تأثر من متابعين مسحورين بإصرار لوبيز وتلامذتها، وبما يقوله هؤلاء الناس كيفية اجتراحهم الأمل من أقسى الظروف. وأميركا، التي كادت توقع الانترنت بصور عارية لنجمة استهلاك شبه بلاستيكية، لها وجه آخر، حقيقي، يتلخص في مربية وتلميذ ومصور يعطي لموقع التواصل الاجتماعي الأكبر معنى أخلاقيا إنسانيا عميقا، ويجعل منه حدثا وأداة للحدث في الوقت نفسه، وليس مجرد ردة فعل.
في قصته التي بنت نفسها بنفسها، عاد براندن إلى الصورة الثابتة والكلمة المكتوبة. لكنه صنع حدثاً بالشراكة مع الجميع، من أبطال قصته أنفسهم، فايدل ولوبيز وتلامذة وأساتذة آخرين، ومن هذا العدد الهائل من المتابعين للقصة من حول العالم والمتفاعلين معها لحظة بلحظة، إضافة إلى المتبرعين بالطبع الذين دفعوا مليونا ومائتي ألف دولار حتى اللحظة.، وهو مبلغ جعل زيارة هارفرد أصغر الأحلام المحققة، بينما الطموح وصل إلى إطلاق منحة جامعية وبرنامج تدريب صيفي وغيره من مشاريع تطوير مدرسة، وبالتالي تطوير مجتمع محلي صغير، وإنقاذه، وغراس تجربة تحتذى لاحقا.
حتى الخميس، كانت محطات تلفزيونية عديدة وصحف قد أعدت تقارير عن الثلاثي، التلميذ والمديرة والمصور، إضافة إلى إيلين التي استضافتهم في برنامجها المشهود. الحدث وقع في "فيسبوك" مساء الخميس. نشر براندن الصورة التي أطلقت عاصفة ثانية: فيدل، المراهق بابتسامته الخجولة نفسها، جالساً على كرسي الرئيس في المكتب البيضاوي. إلى يمينه وقوفاً باراك أوباما وإلى يساره السيدة لوبيز.
نصف مليون لايك في سبع ساعات. وعشرون ألف تعليق. القصة المصورة التي بدأت بمراهق يقف على رصيف في حي بائس انتهت به نفسه جالسا في كرسي رئيس الولايات المتحدة الأميركية.
حجم التفاعل مع القصة لا سقف له. سيل التعليقات لا ينقطع، كذلك سيل التأثر الحقيقي بها. "لن أقرأ هذه الصفحة بعد الآن. ليس سلوكاً محترفاً مني أن أكون جالسة إلى مكتب في العمل، ودموعي تنهمر طوال الوقت". هذا واحد من التعليقات. تعليق آخر يقول: "تبا يا براندن. توقف عن تقطيع البصل"، ممازحاً المصور الذي يبكي الناس مع كل صورة جديدة في روايته.
سيحتاج الباحث عن هذا التعليق الأخير إلى وقت طويل كي يجده، وقد لا يعثر عليه أبدا. لكنه بالتأكيد سيعثر على قصة واقعية رائعة، يمكنه قراءتها بطرق مختلفة تماماً عما تعوّد عليه، لأنها كتبت بطريقة مختلفة تماماً عما يعرفه. وهي مفتوحة ومستمرة.. وفيها الكثير من البصل المقطع.
يفوق عدد متابعي الصفحة 12 مليوناً. كلما وضع صاحبها صورة تنهمر اللايكات والتعليقات ومشاركة الصورة بعشرات الآلاف. في العادة، تحوز الصور ما لا يقل عن مائة ألف معجب، إضافة إلى سيل التعليقات المبتهجة بشخص مجهول يبتسم للكاميرا مع نص صغير من بضع عبارات يقولها ردا على سؤال براندن.
نجاح مدوّ قوامه وصفة بسيطة لكن لامعة: لكل إنسان قصة تستحق أن تروى. ما عليك إلا أن تسأل السؤال المناسب، وتصغي إلى الجواب. أرفق الكلام بالصورة التي تجمد فيها لحظة شعوره بأنه مميز وراض عن نفسه ويحبها.
الشاب الأبيض، الذي أتى قبل خمسة أعوام من شيكاغو عاطلاَ عن العمل يحمل كاميرا لكنه لا يجيد التصوير، نموذج الأميركي الودود الطيب الذي يبتسم طوال الوقت ويزيد من لطفه صوت أنثوي رفيع. هو نموذج من يمكن للمدينة الأشد غرابة وقسوة في العالم أن تلتهمه. لكنه بات أمين سرها، يؤرشف وجوه ناسها المجهولين كلهم، حافظا قصصهم الصغيرة الملأى بالخيبات والتحديات والأحزان والأفراح والحب والانكسارات.
بوصفة بسيطة قوامها الأمل، بات براندن يؤرشف حياة نيويورك. راوي الـ"فيسبوك" هذا غيّر مفهوم القصة وشكلها. جعلها إلى هذه الدرجة مختصرة، وإلى هذه الدرجة مفتوحة على المعلقين عليها كي يعيدوا تشكيلها بقصصهم وانفعالاتهم وحواراتهم المتناسلة من بعضها بعضاً.
مع فيدل، المراهق الأفرو أميركي الذي بدأ النص به، انتقلت صفحة هيومنز أوف نيويورك إلى بعد آخر، ونقلت الميديا إلى أفق مختلف أيضا.
مع الصورة، نشر براندن الحوار القصير التالي بينه وبين فايدل:
"- من الذي كان له التأثير الأكبر عليك في حياتك؟
- مديرتي في المدرسة، السيدة لوبيز.
- كيف كان ذلك؟
- عندما نقع (التلامذة) في ورطة، لا تفصلنا من المدرسة بل تأتي بنا إلى مكتبها وتشرح لنا كيف بني المجتمع حولنا. تقول إنه كلما ترك تلميذ مدرسته بنيت زنزانة جديدة. وفي مرة جعلت التلامذة يقفون واحدا بعد الآخر، لتقول لكل واحد إنه شخص مهم وله قيمة ومعنى.
ما إن نشرت الصورة حتى ارتفع عدد المعجبين بها بشكل مرعب، حتى تخطى المليون مع أكثر من مائة ألف مشاركة. وفتحت الصورة بابا لذكريات الأميركيين (خصوصاً) عن مدارسهم وعن حيواتهم في الأحياء الفقيرة ذات نسبة الجريمة المرتفعة وما عانوه، أو ما عاناه ذووهم، في سبيل متابعة التحصيل العلمي والخروج من حلقات الفقر المفرغة.
تعليقاً على الصورة فتح الأميركيون حديثاً مليئاً بالأفكار والذكريات والشجون سيئته الوحيدة أن من المستحيل متابعته كاملاً. فهناك أكثر من عشرين ألف تعليق أساسي ونقاشات متفرعة من التعليقات نفسها. القراءة العشوائية هي السبيل الوحيد، وكلها تصب في مديح لوبيز، التي لم ير أحد صورتها بعد، ولا يدري ما إذا كانت موجودة حقا، وما هو اسمها الأول.
براندن لا يضع تعليقات من دون صور ولا يخبر عما سيفعله لاحقاً مثلاً. إنه مصرّ على اللعبة نفسها. صور وحكايات. أكمل عادته في نشر صور أناس مختلفين. لكنه بعد ثلاثة أيام من نشر صورة فايدل، نشر صورة سيدة سوداء جالسة خلف مكتب (صوره كلها في الشوارع ومحطات المترو). ترتدي فستاناً بنفسجياً. إنها السيدة لوبيز. مديرة مدرسة "موتهول بردجز"، التي تقع في أسوأ أحياء بروكلين، حيث نسبة الجريمة الأعلى في نيويورك. ذهب المصور إلى قلب قصته إذن للمرة الأولى بعد خمس سنوات تقريباً من إطلاق الصفحة. الهستيريا ستبدأ الآن.
في الصورة الأولى حكت المربية عن أحلامها وتحدياتها. في الصورة التالية مجموعة من الطلاب الضاحكين. معها، أعلن براندن عن إطلاق حملة تبرعات للمدرسة. كان ولوبيز فكرا معا في ما يمكن فعله من أجل المدرسة. المديرة أرادت إطلاق حملة تبرعات لجمع مئة ألف دولار لتمويل رحلات لتلامذتها لزيارة جامعة هارفرد. تريدهم أن يروا ويلمسوا ويثقوا بأن بإمكانهم الوصول إلى إهم الجامعات والمناصب في أميركا. مئة ألف دولار كان الهدف. لكن كرة الثلج تدحرجت كما لم يتوقع أحد. المبلغ المطلوب جمع في 24 ساعة. وراح الرقم يكبر بينما القصة تتابع: المزيد من صور السيدة التي تجيد استدرار دموع تأثر من متابعين مسحورين بإصرار لوبيز وتلامذتها، وبما يقوله هؤلاء الناس كيفية اجتراحهم الأمل من أقسى الظروف. وأميركا، التي كادت توقع الانترنت بصور عارية لنجمة استهلاك شبه بلاستيكية، لها وجه آخر، حقيقي، يتلخص في مربية وتلميذ ومصور يعطي لموقع التواصل الاجتماعي الأكبر معنى أخلاقيا إنسانيا عميقا، ويجعل منه حدثا وأداة للحدث في الوقت نفسه، وليس مجرد ردة فعل.
في قصته التي بنت نفسها بنفسها، عاد براندن إلى الصورة الثابتة والكلمة المكتوبة. لكنه صنع حدثاً بالشراكة مع الجميع، من أبطال قصته أنفسهم، فايدل ولوبيز وتلامذة وأساتذة آخرين، ومن هذا العدد الهائل من المتابعين للقصة من حول العالم والمتفاعلين معها لحظة بلحظة، إضافة إلى المتبرعين بالطبع الذين دفعوا مليونا ومائتي ألف دولار حتى اللحظة.، وهو مبلغ جعل زيارة هارفرد أصغر الأحلام المحققة، بينما الطموح وصل إلى إطلاق منحة جامعية وبرنامج تدريب صيفي وغيره من مشاريع تطوير مدرسة، وبالتالي تطوير مجتمع محلي صغير، وإنقاذه، وغراس تجربة تحتذى لاحقا.
حتى الخميس، كانت محطات تلفزيونية عديدة وصحف قد أعدت تقارير عن الثلاثي، التلميذ والمديرة والمصور، إضافة إلى إيلين التي استضافتهم في برنامجها المشهود. الحدث وقع في "فيسبوك" مساء الخميس. نشر براندن الصورة التي أطلقت عاصفة ثانية: فيدل، المراهق بابتسامته الخجولة نفسها، جالساً على كرسي الرئيس في المكتب البيضاوي. إلى يمينه وقوفاً باراك أوباما وإلى يساره السيدة لوبيز.
نصف مليون لايك في سبع ساعات. وعشرون ألف تعليق. القصة المصورة التي بدأت بمراهق يقف على رصيف في حي بائس انتهت به نفسه جالسا في كرسي رئيس الولايات المتحدة الأميركية.
حجم التفاعل مع القصة لا سقف له. سيل التعليقات لا ينقطع، كذلك سيل التأثر الحقيقي بها. "لن أقرأ هذه الصفحة بعد الآن. ليس سلوكاً محترفاً مني أن أكون جالسة إلى مكتب في العمل، ودموعي تنهمر طوال الوقت". هذا واحد من التعليقات. تعليق آخر يقول: "تبا يا براندن. توقف عن تقطيع البصل"، ممازحاً المصور الذي يبكي الناس مع كل صورة جديدة في روايته.
سيحتاج الباحث عن هذا التعليق الأخير إلى وقت طويل كي يجده، وقد لا يعثر عليه أبدا. لكنه بالتأكيد سيعثر على قصة واقعية رائعة، يمكنه قراءتها بطرق مختلفة تماماً عما تعوّد عليه، لأنها كتبت بطريقة مختلفة تماماً عما يعرفه. وهي مفتوحة ومستمرة.. وفيها الكثير من البصل المقطع.