"نور" المحاصرة في الغوطة الشرقية

19 مارس 2018
+ الخط -
من الصعب انتقاء الكلمات المناسبة لوصف دقيق ومرضٍ للضحية لما يحصل في الغوطة الشرقية السورية. هل ما يجري هناك هو تغيير ديموغرافي ممنهج يمارسه نظام تفنن في قتل شعبه؟ أم إبادة جماعية متوحشة جعلت من النازية والفاشية حركات سلم أهلي؟.. انتقام دموي بشع لمن انتفض يوما ضد الظلم؟ أم كلها مجتمعة معا؟

نقف اليوم عاجزين كل العجز عن إيقاف تلك المقتلة وإنقاذ الغوطة الشرقية. الغوطة التي أطعمت من ثمارها كل سوري وظللت بساتينها كل من بحث عن الراحة والرخاء في عطلة صيفية.

الغوطة التي كانت السباقة في نصرة المظلوم ورفض الظلم والظالم. الغوطة التي كانت أول من رزع شوكة في حلق الديكتاتور الأكبر. الغوطة التي كان رجالها أول من حارب الاحتلال الفرنسي قبل عشرات السنين. عاجزون نحن اليوم حتى عن الوفاء بالدين.

نور، طفلة محاصرة هناك مع عائلتها. أجبرتها الحرب الأنانية والعبثية على ترك مقاعد الدراسة التي باتت أحد أمانيها، بعد أن قصفت طائرات النظام مدرستها وجميع مدارس الغوطة الأخرى.


نور كانت من الطالبات الأوائل في صفها، وكانت تحلم بأن تصبح صحافية لتري العالم كله ما يفعله المجرمون وتكون صوتا لأطفال العالم المنسيين، أو أن تدرس الكيمياء كي تصنع الدواء وتقدمه للناس، الدواء الذي يمنع النظام إدخاله إلى الغوطة. تلك هي طموحات نور، طفلة لم تتجاوز الثانية عشرة بعد.

لم تنتظر أن ينتهي الحصار لتحقق حلمها، وتكون أصغر صحافية في الغوطة الشرقية. فعلى الرغم من صغر سنها، تقوم اليوم مع شقيقتها الأصغر آلاء بتصوير فيديوهات لتخبر العالم بما يجري وتريه الفظائع التي يرتكبها النظام كل يوم في الغوطة الشرقية. تلك كانت فكرة والدتها شمس، التي قررت أن تمنح الأطفال فرصة للتحدث مع العالم الخارجي، الذي يجهل معظمه ما هي الغوطة أو أين تقع.

"ليش عم يقصفنا؟ شو عملنالو وشو بدو منا؟"، قالت لي نور وهي تبكي بصوتها الطفولي المليء بالغضب والأسى. لم أعرف ماذا أقول لها وكيف أواسيها، هل أستخدم عباراتنا المعتادة السخيفة لمواساة بعضنا التي تتحدث عن الصبر والأمل؟ "يلعن أبو بشار على أبو الحرب"، لم أجد عبارة أخرى تخفف معاناة تلك الطفلة.

لا تريد نور من الله سوى أن ينهي الحرب وأن يوقف ذلك القصف الوحشي، لترى أصدقاءها مجدداً وتخرج من الملجأ التي يبدو لها كالقبر ويشعرها وكأنها مدفونة وهي حية وتصرخ بأعلى صوتها طلبا للنجدة، في حين لا أحد يسمعها، أو أنهم يتجاهلون صرخاتها.

شعرت وكأنني أعرف تلك الطفلة منذ زمن. بل أشعرتني بالذنب وكأنها أختي الصغيرة التي تركتها في مكانٍ موحش وهربت. كانت تبكي وهي تتكلم معي مختبئة مع أختها وهما تحضنان والدتهما التي لا تعرف كيف تواسيهما ولا من أين تؤمن الطعام لإطعام ابنتيها الصغيرتين. عشرات الغارات والقذائف قاطعت اتصالنا، وكأن ذلك النظام لم يرد لنا أن نكمل الحديث، لم يرد لي أن أسمع آلام نور ولا حتى أحلامها الضائعة.

تقضي نور معظم وقتها مختبئة في الملجأ مع عائلتها، غير أنها تخرج في بعض الأحيان إلى الشوارع والملاجئ الأخرى لتتحدث مع الأطفال أو تسجل رسالة مصورة وتنشرها في ما بعد على تويتر، تخبرنا فيها عما يجري في مدينتها الصغيرة.

نور طفلة من أطفال الغوطة الشرقية، شجاعتها فاقت شجاعة الرجال وشجاعتنا نحن الذين هربنا وتركنا نور وحيدة تقاوم السفاحين. عندما بدأت تكبر وتدرك الأمور من حولها وجدت نفسها وسط حرب شرسة لا تميز بين طفل أو كبير.
4CCAB058-9576-4EA1-A667-AE1412DB4876
مازن حسون

صحفي سوري مستقل من مدينة الرقة. يكتب في عدة صحف ومواقع إخبارية.يقول: أنا مواطن عادي يبحث عن الحرية، أنتمي لسورية ولسورية فقط، أؤمن بالإنسان وكرامته قبل كل شيء.