"نهاية سعيدة" للنمساوي ميشائيل هانكه: أنقياء العزلة البورجوازية

16 فبراير 2018
من "نهاية سعيدة" لميشائيل هانكه (الموقع الإلكتروني لمهرجان "كان")
+ الخط -
مع إعلان النمساوي ميشائيل هانِكه (1942)، في 29 يناير/ كانون الثاني 2018، عزمه على إنجاز سلسلة روائية تلفزيونية ـ مؤلّفة من 10 حلقات ـ كمشروع مقبل، يقارب فيها تعاليم هويات وانتماءات تحاصر شبابًا أوروبيين، تهبط طائرتهم ـ اضطراريًا ـ في مكان مستقبليّ؛ يكون على أتباعه ـ الولوعين بنصوصه الصدامية ـ الانتظار طويلاً كي يحتفوا بتحف جديدة من عيار "الشريط الأبيض"، الفائز بـ"السعفة الذهب" في الدورة الـ62 (13 ـ 24 مايو/ أيار 2009) لمهرجان "كانّ"؛ و"حبّ" (2012)، الحاصل على "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي (2013).
بيد أن هانِكه لم يختفِ نهائيًا. فنصّه "نهاية سعيدة" خاض سباقًا في المسابقة الرسمية للدورة الـ70 (17 ـ 28 مايو/ أيار 2017) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ، من دون تحقيق دويّ مُعتبر، رغم بصيرته المتأنية فيما يتعلق بالنظرة الاستعلائية، وإشاراتها "التأثيمية" لحملات العداء ضد الغرباء، ومخيمات لاجئي "كالي"، المدينة الفرنسية الساحلية.
فهل أسيء فهم مقاصده آنذاك، أم أن القلوب تحجّرت؟
بدا جليًا أن ما أنجزه ميشائيل هانِكه لم يطب كثيرًا لنعرة شوفينية، ولم يسايرها، هي الساعية إلى أبلسة عابري حدود، وخادشي صفاء مِلّة بيضاء. تدور حكاية "نهاية سعيدة" حول تفكّك روابط عائلة بورجوازية، يهيمن عليها جدّ كهل بطريركي النزعة، يظنّ أن الجميع حوله يخونون أماناته.
في مفتتح الفيلم الفاتن بسكينته، يُصوِّر هانِكه انهيار جدار عملاق، مُمهدًا لجفاءات مبطّنة بين أفراد يسعون إلى سطواتٍ مدمّرة. يتحاشون، في مناوراتها، إظهار وحشية لا تتماشى مع أخلاقيات طبقتهم أو محتدهم، مُسلّطين حيفهم بلا هوادة على خدمهم، أو على مَن يشرفون على توفير متطلبات رخائهم. هؤلاء "الأنقياء" مجموعة أنفس شبحية، مزهوّة بأناقات مفرطة، وعزلات مضطربة.
الابنة البكر آن (إيزابيل أوبير) تقود إمبراطورية بناء وعقارات ورثتها عن أبٍ مستبدٍّ يدعى جورج لوران (جان لوي ترانتينيان)، لا يخشى إعلان عجرفته وازدرائه من حوله. تفرض عليها مشاغلها "قمع" عواطفها. سيدة قصر عصرية، تتحرّك كأنها شخصية روائية مستلّة من عوالم القرن الـ15 الفرنسي، حيث تصبح صرامتها عنوانًا لخوفٍ مزمن من موت سلالتها.
تدور حول هذه المرأة المتجبّرة حفنة رزايا بشرية. ابنها بيار (فرانز روغوفسكي)، الذي يُفترض به أن يكون خليفتها في إدارة شؤون الإمبراطورية التجارية، لا يتردّد عن صدّها وتعنيفها، كونها نموذج تفرقة طبقية. شاب "سايكوباتي" ومتنمّر، يعرّض أهله، بسبب نزقه، لدعاوى قضائية. شقيقها، الطبيب توماس (ماثيو كاسوفيتز)، كائن شبق وخوّان، تكنّ له ابنته إيف (فانتين هاردوان)، ابنة الأعوام الـ12، احتقارًا علنيًا، "لأنك لم تحبّ أمي، ولا تحبّ زوجتك الثانية أنياس. أنت لا تحبّني"، وتنغلق في هوسها بمنصّات تواصل اجتماعي ـ يستغلّ هانِكه لقطاتها التلصّصية طوال فيلمه ـ بحثًا عن حنوّ تفتقده في عائلة شبه صامتة.
تعبيرًا عن هذا الخرس، يتعمّد صاحب "ألعاب مسلية" (1997) تفريغ حوارات أبطاله من مؤانساتها، ويجعلها متقشّفة وباردة وحدّية. لا يحتاج آل لوران، المهووسون بذواتهم، إلى الألفة، فهي متوفّرة في ديكورات محيطهم البهيّ والشديد التناظر، التي صمّمها أوليفر رادو، بفخامة أرستقراطية، أكثر مما على ألسنتهم. هؤلاء قوم لن يقدّروا نعمتهم، لأن "كلّ من حولنا، العالم ونحن، عميان"، كما يلخص هانِكه فيلمه.




يرفض مخرج "رمز مجهول" (2000) مواساة شخصياته. فهي تتحمّل عنفها وخطاياه، وأنانيّة دوافعه. هكذا، تُهان كرامة أستاذة الموسيقى أريكا (أوبير)، بطلة "معلمة البيانو" (2001)، على يدي طالب غريب سافل، لتطعن نفسها انتقامًا. مثلها، يحمل التلفزيوني الشهير جورج (دانييل أوتوي) عاره، بعد مشاهدته انتحار صديق صباه، الجزائري مجيد (موريس بِنيشو)، أمامه، تكفيرًا لكرامته إثر اتّهامه بإرسال فيديوهات ترهيب، في "مخفي" (2005).
في "نهاية سعيدة"، تمتد الغلاظة إلى أقصى همجيتها. يصوّب فيها ضيوف آل لوران برودتهم نحو زوجين مغربيين أجيرين، هما رشيد (حسّان غنصي) وجميلة (نبيهة عكاري)، ولاحقًا نحو مهاجري "كالي". فتواجدهم كجوقات يمثل شرًّا وافدًا، يلمِّح ميشائيل هانِكه عبره إلى ضيق عرقي فرنسي مكتوم بجرعات جارحة، وإلى أن انخراط هذه البورجوازية البيضاء، وتفعيل وجودها ضمن عالم خارجي، نفاقٌ كبير.
لن تكون نظرة الرعب الجماعية للرهط الأرستقراطي، وهم يُرغمون على قبول مجموعة أفريقية، أدخلها الابن بيار لمشاركتهم مأدبة غداء، سوى تَمَثّل مدهش لشرح ميشائيل هانِكه في حوار مع "فيلم كومنت"، المجلة السينمائية الأميركية: "إنّ ردّ فعل الأسرة تجاه تلك الأزمة مثال نموذجي جدًا لسلوكنا الجمعيّ في ما يسمى بـ"العالم الأول". نحن نعلّل أنفسنا بآلام ثانوية، رافضين رؤية المشاكل الحقيقية التي تواجه الإنسانية. نحن نفضّل الجهل. نحن نعيش في مجتمع جهل وانطوائية مفتعلة. نحن نفضّل أن نُشغِل أنفسنا بوجودنا الصغير. هذا هو السبب في أن الفيلم مهزلة. المآسي الحقيقية تحدث هناك، في العالم الثالث".
رغم سوداوية "نهاية سعيدة"، فإنّ ما أنجزه مدير التصوير النمسوي كريستيان بيرغر، في خامس تعاون له مع هانِكه، انتصر لبيئةٍ شديدة الضياء والآفاق المفتوحة. فالخارج عصيّ على الاحتواء، ويبقى مُتاحًا للجميع. لذا، لن يستغرب المُشاهد من اقتحام فورات نورانية لحجرات قلعة آل لوران، لأن "النور يُشرِق في الظُلمَة، والظُلمَة لا تقوى عليه".
دلالات
المساهمون