لم يستغل قاسم الفرصة حين وقفت له دلال بضع ثوانٍ قبل أن تنعطف وتختفي نهائياً من حياته، في أحد أيام صيف 1965. تابع الشاب طريقه، وحياته، لكن ليس كي يتخلص منها، بل لينهشه الندم منذ تلك اللحظة، ويحمل ذكراها معه أينما حلّ، طيلة عمره.
من هنا يبدأ جزء أساسي من رواية الكاتب اللبناني حسن داوود الأخيرة، "نقّل فؤادك" (دار الساقي)، وهنا تنتهي أيضاً.
يتابع الكاتب، على لسان بطله، الروتين اليومي للصحافي قاسم، بدءاً من بحثه الذي لا يكلّ عن دلال، التي لم يرها منذ أربعين عاماً، بمساعدة صديقته المقرّبة سعاد، ووصولاً إلى تفاصيل رئاسته لتحرير مجلة على وشك الصدور، ومشواره اليومي إلى مكتبه الذي يضطرّه إلى المرور على الأمكنة نفسها والأشخاص ذاتهم، خصوصاً الفتيات الثلاث اللواتي يراهنّ في طريقه كل صباح، إضافة إلى لقاءاته بين الحين والآخر مع صديقه وائل في المقهى المقفر الذي يوشك على الإقفال.
لا شيء فعلياً يحدث في حياة قاسم الستينيّ. فعلاقاته مع الناس ما تزال كما هي، لا يطرأ عليها أي تغيير، وارتباطه مع الماضي لا يفتر أو يشتد، بل يتمدّد مع تقدّمه في العمر. وحبّه لدلال ما يزال على حاله، حبّ قائم على ذكرى كاوية.
يصوّر داوود العالم حول بطله: ساكناً ومكرّراً وعادياً. لا شيء يتغيّر إلا الأمكنة في مدينة دائمة التحوّل عمرانياً مثل بيروت. ويبدو قاسم رافضاً لواقعه ومتعلقاً بلحظات ماضية باتت تشكّل مختصراً لحياته. ومن هنا يمكن قراءة عنوان الرواية المقتبس من بيت أبي تمام الشهير، "نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى..."، قراءة مخاتلة قد تتعدى الحنين إلى المرارة.
يكتنف الغموض أموراً كثيرة حول البطل الراوي، كعلاقة الصداقة التي تجمعه بسعاد، وحقيقة مشاعره تجاهها وتجاه الفتيات الثلاث اللواتي يراهنّ كل يوم، أو حتى قصّة حبّه لدلال، والسبب وراء عدم قدرته على نسيانها.
لكن، في النهاية، يبدو جليّاً أنه هو نفسه، قاسم، الغارق في نوستالجيا روتينية تخفي لاجدوى العالم وما يحدث من حوله، والذي يعاني قصوراً ذاتياً في علاقته مع الزمن والأفراد والأمكنة، لا يريد أن يتغيّر أو يغيّر شيئاً في حياته. بل هو يستمر في حنينه ويحتفظ بذكراها في مخيلته من دون أي يضفي عليها أي تغيير، رافضاً حتى فكرة أن تكون قد شارفت على الثامنة والخمسين من عمرها.. إذ لا بدّ لها أن تبقى دائماً كما كانت حين اختفت نهائياً عن بصره في ذلك اليوم من صيف عام 1965.