"نحن بخير.. حلب لأ"

29 ابريل 2016
القصف لم يتوقّف منذ أيام (Getty)
+ الخط -
تسمّرتُ أمام الشاشة بانتظار علامة وصول الرسالة، طال جلوسي قبل أن تصلني رسالة منهُ: "أنا بخير، حلب لا"، ثم اختفى. المجزرة في حلب لم تبدأ صباح الخميس، ولا مساء الأربعاء، وإن كنتُ أريد تصنيف ما يحصل في حلب اليوم، لكن قلت إنه مجموعة من الهجمات المستمرة التي هدأت لأيام، مُفسحة المجال أمام حلب للملمة جراحها، وتحضير الطحين والضمادات، قبل أن تنطلق الجولة الثانية. 


أربع سنوات مرّت منذ أن بدأت بتغطية الثورة السورية وما تلاها من تسميات، الثورة المستمرة، الانتكاسة، الحرب، الانقسام، ولم تكن تلك المدة كافية للاعتياد على فكرة الحرب أو الخسارة. تنقّلت بين بيروت وتركيا، حزمت حقائبي مراراً وهممت بالانطلاق نحو المناطق المحررة، لطالما أردت أن أرى وأشارك بتوثيق ما يحصل، لكن شيئاً ما منعني، فاقتصرت زياراتي على الحدود.

وفي خضم التنقلّ، أقمت شبكة من الصداقات مع شبان وشابات يعملون من الداخل السوري، هؤلاء هم باكورة 5 سنوات من الثورة والنداءات المطالبة بالحرية والعدالة، اعتمدت عليهم لتوثيق ما يحصل، وأنا بدوري وثقت بهم، بنينا صداقات، الأحاديث التي كانت تبدأ بعبارة: "مرحبا فلان معك لونا من الموقع كذا" استُبدلت بكلمتين: "مرحبا صديقي/صديقتي".

تلك السنوات لم ولن تكون كافية، حتى لو طالت، لنعتاد على إمكانية خسارة هؤلاء الأصدقاء مع تكرار القصف والمجازر التي يعملون على توثيقها، حتى وإن كانوا بعيدين عن الحرب. لا الجامعة، ولا اختصاصنا بالصحافة المكتوبة والمرئية والمسموعة، ولا مجموعة التدريبات التي نخوضها، كلها لا تحضّرنا لتلقّف الخسارة، خسارة الأصدقاء، والأهم، خسارة الأرواح التي تحوّلنا إلى ماكينات صحافية تحصيها: "14 قتيلا بينهم امرأة وطفل وصحافي، 20 جريحا بينهم 10 نساء..." وغيرها من الأمثلة التي تحرّضنا صياغة الأخبار على إبراز أجزاء منها، وكأن الأرواح غير متساوية.

أذكر تماما يوم تلقيت اتصالاً لتغطية خبر: "لونا، مات ناجي الجرف، تأكدي لنعمل خبر". كيف يُطلب مني أن أكتب خبرا عن موت صديقي؟ ومن قال إنه مات؟ هو ليس في سورية أصلا، ولكن من قال أن موت الشعب السوري يقتصر على وجوده في سورية حصراً؟

اعتقدت يومها أن أصعب ما قد يحصل لي هو أن يطلب مني ولمدة يومين، متابعة وكتابة كل شيء عن ناجي وعمله، اعتقدت أن التعامل مع ذاك النوع من الموت صعب. نسيت لوهلة أن تلك الغصة تتملّكني عند قصف الغوطة، أو حمص، عند مشاهدة كل مقطع فيديو من سورية.

الغصة التي شعرت بها للمرة الأولى في أيار 2013، يوم كنت أكلم صديقا من أصدقائي الإعلاميين في لجان التنسيق في الشام، ليختفي بعد دقائق بسبب اقتحام الأمن السوري مقر عمله واقتياده وفريق العمل لمكان مجهول، الغصة التي تتملّكنا عند تصفّح موقع "غيتي" لمحاولة إيجاد صورة مناسبة بعيداً عن صور الأشلاء والدماء التي يهرب منها الآخرون، والتي يُطلب منا مراراً الابتعاد عنها، تلك الغصة المستمرة لن يفهمها أحد، إلا من أدمن أخبار سورية ومن قرر أن يكون هو، مُعالج نفسه النفسي، ليستطيع الاستمرار في الكتابة، ونشر أسماء الضحايا كلهم، نساء ورجالا وأطفالا.

اليوم وبعد 5 سنوات، أمتنع عن سؤال محمد عن مكان تواجده باستمرار، لأنني لا أريد أن أخاف أكثر، وأُراقب صفحة يوسف من بعيد، وأتفاعل بخجل، بخجل شديد يعتريني مع الآخرين لأنني أشعر بالعجز، فكلماتي التي تسلحت بها منذ اليوم الأول لن تغيّر شيئاً ولن توقف الغارات عن استهداف منازل المدنيين العُزّل أو حتى تحييدهم عن الصراع، حتى أنني بتّ مترددة في السؤال عما يحصل، لأن أحدهم قد يجيبني يوما قائلاً: "وما الذي لا يحصل في هذه البلاد؟".

القصف المتنوع، باكورة التعاون بين روسيا والنظام السوري مستمر على حلب منذ أيام، راسلني صديقي ليلا مؤكداً أن حملة إلكترونية ستنطلق لتسليط الضوء على ما يحصل، حسناً، نُتابعها.

استيقظت صباحا وقد غطّى اللون الأحمر "فيسبوك"، الصور جزء من الحملة الإلكترونية،  تفقّدت صفحات الاصدقاء، لا صور لهم، إذاً هم بخيْر -حتى الساعة- ، بعكس حلب.



المساهمون