لئِن تضاءل، في هذه الأيام، الاهتمامُ باللاجئين والمهاجرين بسبب غلق أوروبا الشامل لحدودِها، جرّاء جائحة كورونا، فإنَّ هذه الفئة من "المُعذّبين في البرّ والبحر" لا تزال تلفت الانتباهَ إلى مآسيها، بعد فرارها من الأوطان بسبب ما تعانيه فيها من قسوةٍ واضطهاد. ومن مظاهر هذا الاهتمام المستجدّ، صدور الجزء الثالث من "مَلحمة حكيم" مؤخراً عن دار "دلكور" في باريس، للرسّام الفرنسي فابيان تولمي (1980). وقد أراد لهذا الإنجاز الكرتوني الجديد أن يكون شهادةً صادقة عما كابده بطلُه "حكيم" وزوجته "نجمة" وطفلُهما، بعد أن احتَضنَته مدينة إكس-أون بروفانس، جنوب فرنسا.
ومن المفارقات أنّ هذا الشريط المصوّر يضرب بِجذوره في "حدث" لا صلة له بقضية اللجوء ومآسيه، بل في واقع التغطية الإعلامية بأوروبا. ففي سنة 2015، تاريخ حصول مأساة الطائرة الألمانية "جرمان وينغز"، قضى 150 مسافراً بسبب العملية الانتحاريّة التي اقترفها القائد، محطِّماً طائرتَه بمن فيها، في لحظة يأس قاتل. فقد توسّعت وقتها وسائل الإعلام الفرنسية، والغربية عموماً، في ذكر كل التفاصيل المتعلقة بالضّحايا، "حتى صرْنا نعرفُ عنهم كلّ شيءٍ".
وفي نفس الفترة، وما بَعدها وقَبلها، كان يموت يومياً عشرات المهاجرين واللاجئين، ممن تلتهمهم زوارقُ الموت فيَغرقون في قاع البحار، أو يَقضون برداً وجوعاً في العراء. ثم لا حديث عنهم، في وسائل الإعلام الفرنسيّة، إلا بِذِكر رقْمٍ باردٍ، يُترجم بسرعةٍ ولامبالاة عدد الهالكين منهم، ضمن ما يعرف في الصحافة بـ"الأخبار الهامشيّة". هذا الواقع المُجحف هو ما دفع الرسّام إلى انتقاد إعلام بلاده من خلال هذا العمل المصوّر.
ولرفع هذا الحيْف الإخباري، قرّر تولمي أن يَذهب للقاء لاجئ حقيقي، حتى يفهمَ مأساتَه وينقلها عبر التصوير الكرتوني، مجال عملِهِ المحبّذ. ففي سنة 2016، نسج علاقة ودية مع أحد اللاجئين السوريين، الذي نجهل هويته الحقيقية ولكنه أطلق عليه من الأسماء "حَكيم"، ليسمع عنه حكايته الصادقة ويفهمَ تفاصيلها. إلا أنّه، حسبَ تصريحه، بادره بفكرة مُسْبقة وتخطيط عمل جاهز، أملته ضرورات النشر وسوق الكتب المصورة. ولكن، ما إن بدأ الحديث إليه حتى تناثرت قناعاته وأدرك ضرورة تحطيم أفكاره النمطيّة.
وبعد لقاءاتٍ منتظمة امتدّت لسنة ونصف، روى حكيم ما كابَده في كل مرحلة من مراحل تغريبته: فقد فرَّ من قريته جنوبًا نحو الأردن، غير أنه مُنع من العمل على أرضها، لأنَّ إدارتها كانت ترفضُ تشغيل السوريين، فأُجبِر على المغادرة نحو تركيا، حيث تعرّف على الفتاة "نجمة" وتزوّج بها. ولكنّ الموارد المالية كانت شحيحة، فاضطرّ الزوجان إلى الانفصال مؤقتًا، حيث سافرت الزوجة إلى أوروبّا ضمن إجراء "جمع الشمل" مع والديْها، ليجد حكيم نفسَه برفقة ابنه الرضيع، يجتاز الغابات وينام في محطات القطار. ولم يلتق بأسرته، في فرنسا، إلا بعد رحلة قاسية عبر أدغال مقدونيا واليونان.
وهكذا يمثل هذا الجزء الثالث خاتِمة سردية امتدّت على ما يقارب التسعمائة صفحة، برسومها وحواراتِها وألوانها. وفيها يروي مكابَدة حكيم وأسرته بعد وصوله إلى أوروبّا، ومحاولته ألا يسقط في "مُعسكرات" حَشد اللاجئين، قبل تسوية أوضاعهم الإداريّة. وقد عزم الرسّام ألا يقدّم لوحة عامة مُبتذلة عن حياة لاجئين نَكرات، وفضّل الغوصَ في أعماقِ أعماق التجربة الذاتية لحكيم، ونقل معيشه اليومي الدقيق بوصف ما استَشعره من عنصريّة وكراهية الأجانب. ومع ذلك، أكّد الرسام أنَّ حكيما كان قادراً، رغم كل شيءٍ، على المزح والدعابة حتّى في أحلك الفترات وأشدها درامية.
وللتذكير، خُصّص الجزءُ الأول، من هذه الثلاثية، لحياة حكيم في بلدته السورية حيث كان يعيش حسب نَمط يقرب من المثال الأوروبي. سورية تلكَ التي يحبّها، على عِلاتها، والتي لم يكن يتصوّر البتة أنه سيفارقها. وعندما اندَلعت الحرب الأهلية، غادرها على أمل العودة إليها بمجرد انتهاء "الأزمة". وفي الجزء الثاني، يقصّ الرسام رحلة حكيم عبر المتوسط وما لاقاه من عنتٍ مع "العبّارين".
طيلة هذه الثلاثية، كان أسلوب فابيان تولمي دقيقاً، يستعيد التفاصيلَ الأليمة لكلّ مرحلة من مراحل التغريبة، بما فيها من جزئيّات صادقة، وهو ما يُضفي على العمل طابع الواقعية. وقد استخلص قائلاً: "أن تكون لاجئًا ليس مما يحدثُ بشكلٍ آني. بل هو انهدام بطيء. تتوالى الأحداث، فيتملكني شعورٌ بضرورة سرد كل المراحل من أجل النفاذ إلى جِلد الشخصية".
فبعدما جالس حكيمًا، طيلة ثمانية عشر شهرًا، "نَفَذَ إلى جِلده"، والمجاز له، فحملنا، صفحة تلو الأخرى وجزءًا بعد آخر، على إدراك خطورة التحديات التي واجَهها هذا المواطن الهادئ فرارًا من الجوع والسجن والموت. وأكّدت رسومه أنْ لا شيءَ مضمونٌ أبدًا، وأنّ التاريخَ، تاريخَه البائس مذ غادر قريته، فَغَرَ فاه على كلّ الاحتمالات، وأحلاها مرٌ، وأنّ الشك والتوجس ومرارة الاقتلاع مشاعر ستصاحب كل خطوة يخطوها.
ولئن اقترنت الأشرطة المصوّرة لدى القارئ العربي بالإضحاك والتسلية، فإنها قد تؤدي وظائف أكثر جدية وعمقًا عندما تتناول مثل هذه القضايا المهمة، ذات البعد الدرامي. ولذلك تكتسي مع طابعها الثقافي، بعدًا تربويًّا تعليميًّا، يتوجّه إلى الكبار والصغار لإعلامهم بما يقع في نفسية لاجئ، فارٍّ من الموت وما يمكن أن يحدق به من أخطار، أدناها الكراهية والازدراء، إن واتاهُ الحظ فلم يَغرَق أو يمت شريدًا.
ومن المشروع أن نتساءل عن وجاهة تحويل المعاناة الحيّة إلى شريط مصوّر. أليس فيه مسخٌ لطبيعتها و"تمييعٌ" لجوهرها الأليم؟ لأنَّ لا-وعينا تعوَّد على ربط الرسوم بقصص الأطفال وأحاديث الدّعابة. فالخطر أن تؤخذ مأساة حكيم، رغم تنويه الرسّام، على أنها صورٌ ضاحكة مُضحكة، تُرى للتسلية، وسريعًا ما تُنسى حين يمرّ الـمُشاهد المَلول إلى غيرها.
من جهة ثانية، هل من الوجاهة الفنيّة تحويل أشخاصٍ تاريخيين، من لحمٍ ودمٍ، إلى رسوم وخطوطٍ وظلالِ ألوان، تَذهب بملامحهم وتغيض بها في مهامِه الدّرجات اللونية والتعرّجات والتجاويف حتى لا تُبقي من حجم المأساة وألمها شيئًا، فتعطي الرسوم نتائج عكسية فعوَض أن تؤدي إلى التحسيس بهذه القضية، تغَيِّب الوعي في متاهةٍ من الخطوط. وهذا ما لا نتمناه للرسّام ولا للاجئ.
بطاقة
وُلد فابيان تولمي في مدينة أورليان، جنوب باريس. تحصّل على شهادة في الهندسة المعمارية وتخطيط المُدن. مارَسَ مهنته هذه كمهندس، على مضض، في العديد من البلدان، ومنها جمهورية بنين والبرازيل حيث تعرَّف على زوجته وعلى رسّامي الكاريكاتور هناك، ومنهم استمدّ هذه الهواية، فإذا بمواهبه تتفتق عن العديد من الأعمال ومنها: "لستِ أنتِ التي أنتظر" و"حياتا دي بودوان" و"مَلحمة حكيم". غالباً ما تتسم أعمال رسامنا هذا بلمسة ألم تترجم مرارة الواقع وتقدّمه للقارئ بلا زيف ولا أقنعة.