"مهرجان القاهرة السينمائي" ومصائبه الكثيرة... أزمة كيانٍ لا استقالة

28 نوفمبر 2017
ماجدة واصف في إحدى جلسات المهرجان (فيسبوك)
+ الخط -
لن تكون سهلةً معرفةُ سبب إعادة طرح مسألة استقالة ماجدة واصف من رئاسة "مهرجان القاهرة السينمائيّ الدوليّ"، في منتصف دورته الـ39 (21 ـ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017). مؤشّرات سابقة على بدء الدورة هذه تعكس رغبة عميقة لديها في الاستقالة، عبّرت عنها في تصريحات صحافية مختلفة. ضغوط غير محتملة، أبرزها متعلّق بالميزانية، خصوصاً بعد انهيار قيمة الجنيه المصري إزاء الدولار الأميركي (الدولار الأميركي يُساوي 17,64 جنيهاً مصرياً)، ما أدّى إلى ارتفاع الأسعار كلّها. حاجة المهرجان إلى استقلالية تامة عن أجهزة الدولة، وتحويله إلى مؤسّسة قائمة بحدّ ذاتها، مطلبان أساسيان يُعتَبَران ركيزة ضرورية، لتثبيت مكانته في المشهد العربي، ولإعلاء شأنه دولياً. هذا ما تريده واصف أيضاً، كما تقول.

مصائب جمّة يعانيها المهرجان منذ سنين عديدة. تراكمها، بدلاً من حلّها جذرياً، سببٌ جوهريّ لتردّي أحواله. الدورة الـ36 (9 ـ 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014)، المُقامة برئاسة الناقد الراحل سمير فريد (1943 ـ 2017)، محاولة جادة لإعادة الوهج إليه، رغم كمّ هائل من الضغوط والمواجهات. لكن واصف تُلمِّح إلى مسؤولية فريد في بلوغ المهرجان حالته هذه، "لأنه ألقى به في حضن وزارة الثقافة بشكلٍ كامل"، وهذا، برأيها، أدّى إلى الحالة السلبية الراهنة.

الأيام القليلة الأولى للدورة الـ39 غير مُبشِّرة: خللٌ تقني يُلغي الحصول على تذاكر المُشاهدة (تمّ السماح للجميع بالدخول مجّاناً)؛ وهذا لاحقٌ بخللٍ تقني آخر، يمنع نقّاداً وصحافيين عرباً من استلام بطاقات خاصّة بهم. أفلامٌ تُعرَض من دون صوت، وأخرى يؤجّل عرضها إلى موعدٍ يُحدّد لاحقاً. مخرجون أجانب غير راضين على التقنيات المستخدمة في صالات العرض في "الهناجر" أو "مركز الإبداع"، بينما صالات "أوديون" و"الزمالك" محتاجة إلى تأهيلٍ كاملٍ. غياب مشاهدي أفلامٍ معروضة في صالات شبه فارغة، من دون تناسي عروض أخرى تستقطب كثيرين، وهذه إيجابية تُحسَب للمهرجان وللناس معاً.

المال ضرورة ملحّة. البعض يُحدِّد مبلغ 10 ملايين دولار أميركي، يراه مناسباً للارتقاء بالمهرجان إلى المستوى الدوليّ المطلوب، ولـ"التنافس" (!) مع مهرجانات "كان" وبرلين وفينيسيا. لكن، سيكون ناقصاً كلُّ قولٍ يتغاضى عن أسبابٍ أخرى، "تتحمَّل"، هي أيضاً، مسؤولية التردّي، كتنامي سطوة "جهات سيادية" عليه، وتعاظم النزاعات المختلفة داخل مؤسّسات الدولة، وشدّة البيروقراطية، وتراجع وزارات معنيّة (كالشباب والسياحة) عن وعودٍ بتقديم دعم مالي، والغلاء الذي ينهش الناس والبلد معاً، وارتفاع تكاليف استئجار الأفلام، علماً أن الإمكانات المتوفرة حالياً للمهرجان "تفرض" على إدارته تخصيص مبالغ تتراوح بين 500 و2000 دولار أميركي، فقط، لقاء كلّ فيلمٍ.

تُضيف ماجدة واصف أن الوضع الأمنيّ المرتبك سببٌ أساسيّ لغياب "نجوم عالميين". هذا واقعٌ مؤلم، إذْ كيف يُمكن إقناع "نجم" بتلبية دعوة لحضور المهرجان، في ظلّ تخبّط أمنيّ، ناتجٍ من أعمالٍ إرهابية تُنَفَّذ داخل مصر، وإنْ في أمكنة بعيدة عن القاهرة؟ قيل هذا الكلام قبل مجزرة "مسجد الروضة" (شمال سيناء)، في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017. لكنه يعكس حالة عامة من القلق الدائم، المترافق وأسبابا كثيرة لمزيد من القلق اليومي المصريّ. هذا كلّه يؤدّي إلى غياب رؤية ثقافية وفنية واقتصادية لمهرجانٍ سينمائيّ، يُفترض به أن يكون واجهة بلدٍ واجتماع وصناعة وإنتاج ووعي معرفي.


المؤكّد أن ماجدة واصف غير قادرة على الاستمرار. طموحها (استقلالية المهرجان) يصطدم بموانع كثيرة، في بلدٍ خاضع برمّته لسلطةٍ غير آبهةٍ بشأنٍ سينمائيّ كهذا، مع أن "قراراً سيادياً" تُصدره، وينصّ على تولّي الشبكة التلفزيونية dmc رعاية الدورة الـ39. والشبكة، كما هو متَدَاول، مرتبطة بـ"المخابرات الحربية"، أي بـ"جهة سيادية". صحيحٌ أن رعاية كهذه رفعت الميزانية من 6 ملايين إلى 13 مليون جنيه مصري، ما أتاح تسديد ديون متراكمة. يوسف شريف رزق الله، المدير الفني للمهرجان، يقول إن 3 ملايين جنيه مصري مخصّصة بتسديد الديون، وإن المتبقي (10 ملايين) يُعادل، بعد التعويم، قيمة الـ6 ملايين قبله.
لكن "مهمّة" الشبكة التلفزيونية تلك مُحدَّدة بما يلي: الاهتمام بحفلتي الافتتاح والختام، وطباعة بطاقات الدعوات إلى حضورهما، وتأمين تكاليف "السجادة الحمراء"، واستئجار الأجهزة الخاصّة بعرض الأفلام، والحملة الإعلانية والإعلامية في صحف ومحطّات تابعة للشبكة، والاتصال بـ"النجوم"، وتولّي دفع المبالغ المطلوبة من قِبلهم. هذا كلامٌ يقوله رزق الله، الذي ينفي معرفته بقيمة تلك المبالغ (لكن، أين "نجوم الصفّ الأول"؟).
إزاء معطيات كهذه، يُردِّد البعض أنْ "لا جديد تحت شمس المهرجان". فمسائل كهذه مُكرّرة عاماً تلو آخر؛ ولا علاقة للمأزق الفعلي بالاستقالة ونتائجها، بل بمعنى المهرجان، وكيانه الثقافي والتنظيمي والإداري، ومكانته المرتبكة، وحضوره الهشّ أو الغائب في الاجتماع والصناعة الثقافية والفنية، مصرياً وعربياً ودولياً. كما أنَّ تنامي سطوة الأجهزة الرسمية السيادية (الأمنية أو العسكرية)، وارتباك علاقة مؤسّسات غير سيادية (وزارات الثقافة والشباب والسياحة) بالمهرجان، يحولان دون تحوّله إلى عامل مُنتِج وفعّال، وإلى هدفٍ يرغب فيه كثيرون كحالة سينمائية متكاملة، وإنْ ترتكز على السياحة أيضاً.
إزاء هذا، تُختَزل المسألة بكلامٍ مقتضب: "الراهن المصري برمّته محتاجٌ إلى تغيير جذري".

دلالات
المساهمون