أفلام عربية عديدة تُشارك في الدورة الـ31 (14 ـ 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية". مسابقات وبرامج وحضور ولقاءات. حيّز لن يستقلّ كلّيًا عن المشهد العام للمهرجان، لكنه يعثر على مساحة ثقافية له في صناعة الفيلم الوثائقي. فلسطينيون منشغلون بتفعيل مؤسّسة خاصّة بالسينما الفلسطينية، بعد أشهر على الإعلان عنها في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ". لبنانيون يعرضون نتاجات حديثة، أو يأتون للقاءات إنتاجية وتمويلية. آخرون يُقدّمون أفلامًا لهم تطرح مسائل مرتبطة بالراهن والماضي، ويناقشون أحوال التمويل والإنتاج.
هذا يختزل شيئًا من المشهد العربي في أمستردام، ومهرجان المدينة يبقى الأهم في الصناعة الوثائقية. أفلامٌ معروضة تتفاوت أهميتها، لكنها تصبّ في تفعيل المعنى الجمالي للنص الوثائقي البصري. التساؤلات عديدة، كتعدّد الحالات والانفعالات المشتعلة في الجغرافيا العربية، وبعضها معقود على تداعيات "الربيع العربي" والانقلابات عليه. الذاتيّ طاغٍ، وأحيانًا يكون طغيانه أقوى وأشمل.
التونسية فاطمة الرياحي تنبش واقعًا معقّدًا يُعانيه توفيق، في اضطراب علاقته بزوجته البوسنية، وفي ارتياحه لعلاقته الجميلة ببناته الـ3، وفي صدامه مع سلطة بلده، وفي نزاعات إنسانية وقانونية يواجهها في أوروبا. ينطلق "الغياب"، المُنجز لحساب "الجزيرة الوثائقية"، من أشرطة "فيديو عائلي" تُصوِّر احتفالاً بعيد ميلاد إحدى الفتيات الـ3، ومن رغبة الراوية/ المخرجة في معرفة مصير هذه العائلة المختفية من حياتها فجأة. رحلة تقوم بها الرياحي في جغرافيا الروح، وفي مسام الواقع، وفي انفعال متمكّن من توفيق إزاء مسائل جمّة، وهو انفعال لن يبقى دائمًا إيجابيًا، فهو منفضّ كلّيًا عن "امرأته السابقة"، ومنجذب كلّيًا إلى بناته الـ3.
من جهة أخرى، يغوص السوري وائل قدلو في تاريخه العائلي الضيّق، كي يستعرض مسارًا حياتيًا مفكّكًا ومُقلقًا، فيلتقي والديه المطلقين وعمّه كي يُعيد سرد الحكاية الأصلية، وكي يبحث عن منفذ منها لخلاصه الذاتي. عنوان الفيلم (طريق البيت) يُنبِّه إلى مضمون ينكشف تدريجيًا أمام عدسة الكاميرا، رغم أن النواة الدرامية للحبكة حاضرة في تعنّت (خجول) للأم (اتحاد) إزاء موضوع زواجها الأول (صيّاح) الذي تُنجب فيه ابنها الجالس إليها الآن لفهم الحكاية. التوليف المعتَمَد في تركيب قصص الحبكة يصنع بنيانًا دراميًا وثائقيًا تسهل متابعته كمن يُرافق قدلو في حقول الألغام تلك، إذْ أنّ الحكاية مفتوحة على صدام حقيقي بين عائلتي الوالدين المطلقين، المنتميتين إلى شريحتين اجتماعيتين متناقضتين إحداهما مع الأخرى كثيرًا. والسرد، المتشعّب بين علاقة الوالدين وحضور العم والجدّة وفيقة (والدة الأب) ـ التي لن تظهر أمام الكاميرا بسبب وفاتها عام 2011 ـ في تربية الفتى في مراحل مختلفة من حياته، يتحوّل إلى نوعٍ من مرآة خفيّة لاجتماع سوري يكشف عادات بيئة وزمن وتقاليدهما، فالأم قادمة من انفتاح وتحرّر وعيشٍ أسلس من تربية أبٍ تقول (التربية) بنقيض مطلق لحياة الأم.
الذاتي عميق الحضور في النص الوثائقي: "مولود عام 1980 في دمشق، في الفترة نفسها التي تشهد بداية تنفيذ مشروع شقّ طريق بالقرب من منزل الجدّة"، يقول قدلو، مضيفًا أن 5 أعوام ستمرّ قبل تعرّفه إلى والده، وأن بحثه عن الوالدة يبدأ عام 2000. هذا دافع إلى استعادة ماضٍ غير منته، ومحرّض على إيجاد توزان ـ عاطفي واجتماعي ونفسي وروحي ـ لقدلو نفسه، الذي يُعاني في صغره مرضًا سرطانيًا يُشفى منه لاحقًا. تنقيبه عن مفردات الحكاية ومضمونها يترافق والتقاط أشياء عديدة في بيئات اجتماعية سورية، وانشغاله في ترميم الحكاية لن يحول دون مواجهته شخصيات متصادمة ومتناقضة وعدائية في ما بينها. الحراك المدنيّ السوري يمرّ في الفصل الأخير، ويكون أشبه بتبيانٍ بصري لنزاع خفي بين أناسٍ مختلفين في كيفية مواجهة نظام باطشٍ، كأن تُعيب الأم على ابنها وجيله حراكهم المؤدّي إلى "تخريب" البلد، بينما يرفض الابن اتّهامًا كهذا.
اللبنانية سارة قصقص تتجوّل في شوارع بيروت وزواريبها الخانقة ومنازلها المهترئة وانفتاحها المنقوص على البحر، كي ترسم، بواقعية قاسية، نماذج حيّة من أناسٍ يُقيمون فيها لكنهم يعانون جحيمها. وهي (قصقص)، في "تحت التحت"، ترافق فلسطينيًا يعمل سائق أجرة وينام في سيارته، ولبنانية تعيل والدتها العجوز وأفراد عائلة تنتمي هي إليها لكنها مكوية بالفقر والقهر والألم، وسوريًا غير متجاوز سن المراهقة بعد، يتشرّد في تلك المدينة المعطّلة، ويسعى لعيش آمن مع صديقين.
هذه نماذج. الحراك الوثائقي العربي مفتوح على أسئلة الراهن والماضي معًا، وعلى أسئلة الذات ومحيطها، وعلى أسئلة المغيّب والمُعلن؛ والغربيون منجذبون إلى هذه البقعة الجغرافية، بتناقضاتها وانكساراتها وخيباتها ومواجعها وفقدانها وانعدام كلّ أمل فيها بخلاص مطلوب. الحالة الفردية أساسية، لكن طيف الجماعة حاضرٌ، وأحيانًا تحضر الجماعة في كلامٍ أو انفعال أو قول.
التونسية فاطمة الرياحي تنبش واقعًا معقّدًا يُعانيه توفيق، في اضطراب علاقته بزوجته البوسنية، وفي ارتياحه لعلاقته الجميلة ببناته الـ3، وفي صدامه مع سلطة بلده، وفي نزاعات إنسانية وقانونية يواجهها في أوروبا. ينطلق "الغياب"، المُنجز لحساب "الجزيرة الوثائقية"، من أشرطة "فيديو عائلي" تُصوِّر احتفالاً بعيد ميلاد إحدى الفتيات الـ3، ومن رغبة الراوية/ المخرجة في معرفة مصير هذه العائلة المختفية من حياتها فجأة. رحلة تقوم بها الرياحي في جغرافيا الروح، وفي مسام الواقع، وفي انفعال متمكّن من توفيق إزاء مسائل جمّة، وهو انفعال لن يبقى دائمًا إيجابيًا، فهو منفضّ كلّيًا عن "امرأته السابقة"، ومنجذب كلّيًا إلى بناته الـ3.
من جهة أخرى، يغوص السوري وائل قدلو في تاريخه العائلي الضيّق، كي يستعرض مسارًا حياتيًا مفكّكًا ومُقلقًا، فيلتقي والديه المطلقين وعمّه كي يُعيد سرد الحكاية الأصلية، وكي يبحث عن منفذ منها لخلاصه الذاتي. عنوان الفيلم (طريق البيت) يُنبِّه إلى مضمون ينكشف تدريجيًا أمام عدسة الكاميرا، رغم أن النواة الدرامية للحبكة حاضرة في تعنّت (خجول) للأم (اتحاد) إزاء موضوع زواجها الأول (صيّاح) الذي تُنجب فيه ابنها الجالس إليها الآن لفهم الحكاية. التوليف المعتَمَد في تركيب قصص الحبكة يصنع بنيانًا دراميًا وثائقيًا تسهل متابعته كمن يُرافق قدلو في حقول الألغام تلك، إذْ أنّ الحكاية مفتوحة على صدام حقيقي بين عائلتي الوالدين المطلقين، المنتميتين إلى شريحتين اجتماعيتين متناقضتين إحداهما مع الأخرى كثيرًا. والسرد، المتشعّب بين علاقة الوالدين وحضور العم والجدّة وفيقة (والدة الأب) ـ التي لن تظهر أمام الكاميرا بسبب وفاتها عام 2011 ـ في تربية الفتى في مراحل مختلفة من حياته، يتحوّل إلى نوعٍ من مرآة خفيّة لاجتماع سوري يكشف عادات بيئة وزمن وتقاليدهما، فالأم قادمة من انفتاح وتحرّر وعيشٍ أسلس من تربية أبٍ تقول (التربية) بنقيض مطلق لحياة الأم.
الذاتي عميق الحضور في النص الوثائقي: "مولود عام 1980 في دمشق، في الفترة نفسها التي تشهد بداية تنفيذ مشروع شقّ طريق بالقرب من منزل الجدّة"، يقول قدلو، مضيفًا أن 5 أعوام ستمرّ قبل تعرّفه إلى والده، وأن بحثه عن الوالدة يبدأ عام 2000. هذا دافع إلى استعادة ماضٍ غير منته، ومحرّض على إيجاد توزان ـ عاطفي واجتماعي ونفسي وروحي ـ لقدلو نفسه، الذي يُعاني في صغره مرضًا سرطانيًا يُشفى منه لاحقًا. تنقيبه عن مفردات الحكاية ومضمونها يترافق والتقاط أشياء عديدة في بيئات اجتماعية سورية، وانشغاله في ترميم الحكاية لن يحول دون مواجهته شخصيات متصادمة ومتناقضة وعدائية في ما بينها. الحراك المدنيّ السوري يمرّ في الفصل الأخير، ويكون أشبه بتبيانٍ بصري لنزاع خفي بين أناسٍ مختلفين في كيفية مواجهة نظام باطشٍ، كأن تُعيب الأم على ابنها وجيله حراكهم المؤدّي إلى "تخريب" البلد، بينما يرفض الابن اتّهامًا كهذا.
اللبنانية سارة قصقص تتجوّل في شوارع بيروت وزواريبها الخانقة ومنازلها المهترئة وانفتاحها المنقوص على البحر، كي ترسم، بواقعية قاسية، نماذج حيّة من أناسٍ يُقيمون فيها لكنهم يعانون جحيمها. وهي (قصقص)، في "تحت التحت"، ترافق فلسطينيًا يعمل سائق أجرة وينام في سيارته، ولبنانية تعيل والدتها العجوز وأفراد عائلة تنتمي هي إليها لكنها مكوية بالفقر والقهر والألم، وسوريًا غير متجاوز سن المراهقة بعد، يتشرّد في تلك المدينة المعطّلة، ويسعى لعيش آمن مع صديقين.
هذه نماذج. الحراك الوثائقي العربي مفتوح على أسئلة الراهن والماضي معًا، وعلى أسئلة الذات ومحيطها، وعلى أسئلة المغيّب والمُعلن؛ والغربيون منجذبون إلى هذه البقعة الجغرافية، بتناقضاتها وانكساراتها وخيباتها ومواجعها وفقدانها وانعدام كلّ أمل فيها بخلاص مطلوب. الحالة الفردية أساسية، لكن طيف الجماعة حاضرٌ، وأحيانًا تحضر الجماعة في كلامٍ أو انفعال أو قول.