"مغسلة" ستيفن سودربيرغ: أنوية سردية تبني مشهد النَصْب العالمي

29 يونيو 2020
ميريل ستريب: طاقة تمثيلية هائلة (فيتّوريو زونينو تشيلوتّو/Getty)
+ الخط -
في زمن الوباء، تتساءل الشعوب المنهوبة: أين الثروة؟ هذا مثلٌ على مسالك تبدّدت فيها ثروات الشعوب: يدفع الناس أقساط التأمين بانتظام، لموظّفات أنيقات ومبتسمات، يُصغين بأدبٍ، ويُظهرن الودّ للعملاء. يدفع الناس كي لا توقفهم الشرطة، وكي يتجنّبوا المخاطر. يدفعون، لأنّ القوانين ترغمهم على ذلك. يدفعون، ويتمنّون ألاّ يقعوا في مصائب. لكنْ، حين تقع المصائب، يذهب هؤلاء الناس إلى مكاتب شركات التأمين. يدخلون دكّان البراغماتية لمقابلة مديرين مُتجهّمين، يفحصون العقود بعيون ضيقة، فلا يرون فيها حقوقاً.

هذه حالة عامة. السينما تُركّز على حالات خاصة، كحالة الأرملة إلّن مارتن (ميريل ستريب) في "المغسلة (The Laundromat)"، الذي أخرجه ستيفن سودربيرغ عام 2019: مواطنة بسيطة، عملت 40 عاماً، وتعرّضت للنصب في إطار القانون. تبحث الأرملة المواطنة بصبر لتحصّل حقوقها من موظفة تدير 25000 شركة. مواطنة بسيطة، تعرّضت للنصب. لذا، تجلس هناك، وملامحها تقول إنّ العالم انهار فوق رأسها، لكنّها تكافح لتفهم كيف خُدعت. تقصد الكنيسة لطرح أسئلة لا للصلاة. لا أجوبة، لأنّ الأزمة اقتصادية لا روحية. تُحقِّق المواطنة بنفسها. تكتشف شركات، ومجرّد عناوين بريد إلكتروني. هذه واجهة لإدارة استثمار ضخم. استثمار رأس مال ينمو من دون إنتاج سلع. ينمو بالمُضاربة. هذا هو الاسم العصري للسمسرة.

في مواجهة المواطنة، هناك محاسبون وخبراء قانون متمرّسون على النصب المُمنهج والمُقونن، الذي يُدخل الفرد في متاهة حين يكتشف أنه وقّعَ على بُنود لم يفهمها جيداً. مُهمّتهم التحايل على القانون الجبائي. يُنجزون فواتير غير صحيحة، متسلّلين من ثغرات قانونية. هنا، يُملي مالكو المال القوانين، ويضعون شريعتهم قيّد التطبيق. حدث هذا للأرملة العجوز، التي اتّخذت الاحتياطات كلّها ليمرّ "عمرها الثالث" بسلام.

أدّت ميريل ستريب الدور وهي في الـ71 من عمرها (مواليد 22 يونيو/ حزيران 1949). تشيخ ولا تنفد. لا تزال في جعبتها طاقة هائلة. بلغت حالة تغلغل سيكولوجية لا يبلغها إلا الممثّلون الكبار. لا يُمكن تصوّر الفيلم من دونها. يقول المخرج الفرنسي آلان رينيه إنّ الـ"كاستينغ" يمثّل "بين 50 و80 بالمئة من عمل المخرج". حين يختار المخرج ممثلة، تُعطي حياة وحيوية وجاذبية للدور والشخصية، يكون الفيلم مؤثّراً.

يتغيّر مزاج البطلة تبعاً لتوالي الأمكنة في الفيلم: فُطورٌ في بيتٍ، فنزهة في مركب، فمقبرة، فشركة تأمين، فمكتب محاماة، ثم رحلة بحث في جمهورية بنما، وعودة إلى مكاتب المحامين، ثم لجوء إلى الكنيسة. هنا، تعيش الأرملة غصّة لا دواء لها غير الدعاء، لتنتقم لها السماء. ترتيب الأمكنة بحدّ ذاته يبني مصير الشخصية الرئيسية، الضحية التي أُغلِقت في وجهها الأبواب، فقرّرت أن تغامر لتنتقم، لا لتسترجع حقّها.

لاستكمال الصورة، يخاطب رجلان أنيقان المتفرّجين، ويشرحان لهم كيف أثرَيا من دون أن يسبّب لهما عملهما أي إنهاك جسدي. راويان ساخران، يشرحان بشكل عبثي يوحي بالشماتة. يقولان إنّ مخرج الفيلم يملك 5 شركات وهمية في بنما. حتّى عالم السينما وصله الفساد. راويان في محاكاة ساخرة ممسرحة، مبنية على معطيات. أسلوبٌ يُذكّر بمسرح برتولد بريخت يُنقذ الفيلم من الخطابية والرتابة، بسبب كمية المعلومات الاقتصادية التي يقدّمها.

في شبابه، عمل أحد الراويَين في الأمم المتحدّة لإنقاذ العالم. أدرك هناك أنّ المهم هو إنقاذ نفسه أولاً. إنّه يحاكي الخطاب الحقوقي بشكل ساخر، لجعله ينقلب على نفسه: تمّ نهب الناس وتكديس الثروة وغسلها وتعطيرها في شركات وهمية في بنما.

في "المغسلة"، حكاية من كلّ قارة. هكذا تشكّل السيناريو من أنوية سردية تتكامل لتبني مشهد النصْب العالمي في بنما. تحتاج كتابة سيناريو كهذا إلى معرفة دقيقة بالاقتصاد السياسي والقوانين المالية والـ"أوفشور" والجنّات الضريبية الجاذبة للمستثمرين المتنكّرين.

من هم أصحاب المال؟ نصّابون وزعماء ومشاهير وتجّار نساء وأعضاء بشرية ومخدّرات. من فرط العطف والحنان، لا تنتزع أعضاء السجناء إلا بعد موتهم. يجري أصحاب المال حوارات، مافيوزية وحشية باردة، عن كلّ شيء يُباع. يتفاوضون في مساكن أسطورية ويخوت وحفلات وسيارات فاخرة. أعمال اللصوص الأنيقين مزدهرة دائماً. هناك أشخاص يموتون، وهناك من يستفيد. من باب الحنان، يُظهر المستثمرون تقديراً هائلاً لقيم العائلة، ويوفّرون لها رفاهية هائلة على حساب الآخرين. هذه أجواء استغلال معتادة في الأفلام "النضالية" لستيفن سودربيرغ، كفيلمه ذي الجزأين عن تشي غيفارا (2008).

في قصّة "أوراق بنما" المسرّبة، تقدّم الأرملة المنهوبة حالة فردية، ويقدّم الراويان حالة عامة. هنا، يلتقي الخاص بالعام. النتيجة؟ ألمٌ عظيم سببه فساد عظيم، يؤكّد أنّ "مَن سرق وَجَد"، و"مَن وَجد بَذّر"، و"مَن كَدَح جاع"، و"مَن سَرق تمتّع". أخطر شيء في هذا العالم هو النقود. منذ اختراعها، انقسم المجتمع إلى فوق وتحت، وإلى طبقات وفئات ونخب.

لا عدالة في الأفق. طالما يحتاج المنتخبون إلى الأغنياء، لن يتوقّف التهرّب الضريبي. ستبقى حركة رؤوس الأموال غير خاضعة للرقابة، وسيُسْحق الفقراء. من ينتظر العدالة الاقتصادية ساذج، وهذا أخفّ وصف. نبع أسلوب التناول في "المغسلة" من مآل الأحداث. لا جدوى من الحزن. السخرية أفضل ردّ فعل. لذلك، ترفع الأرملة مِشْطها لتحاكي به شعلة تمثال الحرية.
المساهمون