"معرض بيروت العربي الدولي للكتاب"... أزمة وجود

30 نوفمبر 2015
دورة سابقة لمعرض بيروت العربي الدولي للكتاب (Getty)
+ الخط -
عشية افتتاح كلّ دورة من دوراته السنوية، تحتفل الصحافة الثقافية المحلية بموقعه في المدينة التي يحمل اسمها، وبموقع المدينة في قلب العالم العربي. موقعان تراهما الصحافة نفسها متميّزين بقدرتهما على استكمال مشروعٍ "نهضوي" ما في مقابل الانحطاط والظلامية اللذين يجتاحان العالم العربي حالياً، الذي يشهد حضوراً دموياً ـ عنيفاً لتنظيمات تكفيرية من جهة أولى، ومزيداً من التعنّت الإسرائيلي العنصريّ اليميني الفاشيّ إزاء الحقوق الأساسية للفلسطينيين من جهة ثانية، وتنويعاً خطراً لأشكال القمع والديكتاتورية والتجهيل التي تعتنقها أنظمة عربية حاكمة وتمارسها هنا وهناك من جهة ثالثة، من دون تناسي الانقلابات الخطرة ضد "الحراك العربي" منذ 4 أعوام من جهة رابعة. 

شيخوخة باكرة

كلامٌ كهذا مُكرّر سنوياً في احتفال الصحافة الثقافية اللبنانية بـ "معرض بيروت العربي الدولي للكتاب"، المُقامة دورته الـ 59 بين 27 نوفمبر/تشرين الثاني و10 ديسمبر/كانون الأوّل 2015. لكن الصحافة المذكورة لا تتغاضى عن أحواله الداخلية أيضاً، تلك المُصابة بخللٍ واضح، يتمثّل بـ "روتينٍ قاتلٍ" شكلاً ومضموناً، وبانعدام كلّ رؤية تجديدية قابلة لتطوير آلياته التنظيمية والإدارية والثقافية العامّة، وبغياب خطط واضحة المعالم، تُنقِذ المعرض من ارتباكاته، وتُخرجه من خلل علاقاته السلبية بالكتاب أولاً، وبأبناء المدينة وناسها المقيمين فيها ثانياً، وبمعنى الصورة الثقافية العربية المحتاجة بشدّة إلى إعادة تحديد وتوضيح.

كلامٌ كهذا جزءٌ من قراءات نقدية تهدف إلى تعرية الواقع، وإظهار مكامن الاهتراء والفوضى في آليات العمل الخاصّة بالمعرض، تنظيماً وإدارة وهوية وأهدافاً، لا يبقى بعضها أسير خطابية مجانية في مقاربة المعرض وأيامه وأحواله، بل يسعى إلى إيجاد ما يُساهم في تحريره من وطأة شيخوخة باكرة لم تُصبه وهو في الـ 59 عاماً فقط، بل قبل ذلك بأعوام مديدة، يُعيدها بعضهم إلى البداية الملتبسة للسلم اللبناني الهشّ والناقص، المنبثق من النهاية المزعومة للحرب الأهلية (1975 ـ 1990).

اقرأ أيضًا: سمير جريس، الترجمة كأي علم تتطور بالتراكم

لن يستطيع "معرض بيروت العربي الدولي للكتاب"، في دورته هذه، أن يُشكّل "بقعة ضوء" في المساحة المعتمة، جغرافياً وروحياً وثقافياً وفكرياً وإنسانياً، التي تغطي بيروت والعالم العربي حالياً. ولن يستطيع أن يدعم الكتاب، صناعةً ونشراً وتوزيعاً، في "زمن الإرهاب". ولن يتوصّل إلى جعل أيامه "عيداً للكلمة"، لشدّة وقوعه في تقليدية باهتة لدورات سابقة له، فإذا به يبقى مجرّد احتفال يتّخذ من المدينة اسماً، ومن الكتاب عنواناً، ومن الأيام الـ 13 فسحةً "مطلوبة" لكثيرين من أجل نزهة تُقام بين رفوف نادراً ما تفرغ من كتبها لانصراف الكثيرين عنها، وللقاءات تؤكّد "العلاقات العامّة" التي يتمتّع بها مثقفون وكتّابٌ يتّكئون على "صداقات" لا أكثر في حفلات توقيع كلّ جديد لهم لرفع نسبة "شراء" هذا الكتاب أو ذاك. لن يستطيع المعرض أن يخرج من رتابته لقوّة الرتابة في تحويله إلى حيّز مؤقّت لنشاط لا يتمكّن "النادي الثقافي العربي" (منظِّمه) من إيقافه لأنه النشاط الأكبر له، المنبثق من ذاكرة تاريخية لا أكثر، صحيحٌ أنها محمَّلة بثقلٍ إبداعي، لكنها عاجزة عن توليد امتداد عميق وحيوي للثقل الجميل هذا، فإذا بالمعرض فصلٌ من تاريخ قديم، وإذا بالنادي مقيم في ذاكرة، وإذا بدوراته السنوية محاولة "عقيمة" لتثبيت وجود مهتزّ وركيك.

تحولات خطرة

في ظلّ التحوّلات الخطرة التي تعيشها بيروت في أزمنة قديمة، ينجح "النادي الثقافي العربي" (منظِّم المعرض بالتعاون مع "اتحاد الناشرين اللبنانيين") في إقامة شيء حقيقيّ من التوازن بين الحريق اللبناني (بامتداداته وخلفياته الإقليمية والدولية المتنوّعة) وحيوية الاشتغال الثقافي كعملٍ مقاومٍ للموت بالمعنى الفعلي للكلمة. لكن التسعينيات الفائتة ـ التي يُفترض بها أن تكون انتقالاً مطلوباً من مرحلة الحروب والقتل والتدمير إلى حالة متكاملة من بناء يوازن بين الحجر والروح والعلاقات والفضاء الإنساني (وهو انتقال فاشل) ـ تعجز عن تحرير المدينة من سطوة المال والسياسة الفاسدة، فإذا بـ "معرض الكتاب البيروتي" يعاني "أزمة وجود" لم يخرج منها البتّة لغاية اليوم. أزمة مفتوحة على السؤال الأبرز والأهم: معنى تنظيم معرض سنوي للكتاب، في ظلّ تبدّل حضاري عالميّ تفرضه التقنيات الحديثة، والأفكار الجديدة، والتحدّيات النابعة من عمق التحوّلات الحياتية والثقافية والاجتماعية العامّة.

اقرأ أيضًا: رانيا المعلم، حرفة النشر

فَشَلُ "النادي الثقافي العربي" في الإجابة العملية عن السؤال هذا، يؤدّي بـ "معرض بيروت العربي الدولي للكتاب" إلى تكرار نفسه بشكل مملّ وروتيني، دورةً إثر أخرى، من دون تقديم أي تجديد ممكن يدفعه إلى التقدّم إلى أمام ولو خطوة إيجابية واحدة. أزمة وجود المعرض مرتبطة بأزمة وجود المدينة، وعجزها عن القيام من موتها السريريّ، الثقافيّ العام تحديداً.

بعيداً عن غياب رؤية ثقافية لصناعة الكتاب، ولمسار المعرض ومعنى تنظيمه السنوي، فإن الأزمة هذه واضحة المعالم:
أولاً: عرض الكتب في منصّات خاصّة بدور النشر التي تُصدرها، في رفوف متشابهة وأمكنة ثابتة من عام إلى آخر، مع مراعاة تقديم الجديد على القديم. هذا عرضٌ لا يكتمل من دون القدرة على جذب زائري المعرض، وتحريضهم على الاطّلاع والمتابعة، كما على الشراء والقراءة؛ مع التنبّه إلى استثناءات دائمة، تعكس اهتماماً ملحوظاً لدى قلّة لا تزال معنية بالكتاب المطبوع، وبشرائه وقراءته ومناقشته.

اقرأ أيضًا: فن صناعة الكتب في الصين

ثانياً: تنظيم حفلات تواقيع الجديد في المجالات المختلفة، التي يغلب عليها الشعر والرواية، ويتكاثر عددها سنوياً، من دون أدنى غربلة نقدية عملية ومفيدة. فلا دور النشر مكترثة بنوعية المضمون وبمدى أهميته الجمالية والفكرية والسجالية وبما إذا كان يملك إضافة فكرية أو نقدية أو إبداعية ما أو لا، ولا المعرض معنيّ بالإصدارات، فيروِّج (إن ينجح في الترويج أصلاً) لكلّ جديد صادر حديثاً.

ثالثاً: إقامة ندوات تحمل عناوين "طنّانة رنّانة"، لا شكّ في أن بعضها (وإن كان قليلاً) متعلّقٌ براهنٍ متنوّعِ المشاكل والأسئلة، لكن من دون أن تتوصّل الندوات هذه (أو غالبيتها الساحقة على الأقلّ) إلى جذب مهتمّين لا يكتفون بالاستماع، بل يُشاركون في النقاش الذي يُفترض به أن يفضي بالمشاركين جميعهم إلى تبيان بعض الجديد، أو الإضاءة على بعض المخفيّ. ندوات يتناول المحاضرون فيها (لبعضهم مكانة مرموقة ومؤثّرة وفاعلة، إلى حدّ ما، في المشهد الثقافي العربي العام) مستجدّات اللحظة الآنية، على مستويي التكنولوجيا والفكر مثلاً، علماً أن معظم ندوات كهذه تُلقَى محاضراتها أمام مقاعد شبه خالية.

اقرأ أيضًا: ملصق الفيلم، غلاف الكتاب

رابعاً: إحياء لقاءات موسيقية ـ غنائية لم تخرج من خطابها الفولكلوريّ عن فلسطين مثلاً (في دورات سابقة)، أو عن إحياء بعض التراث العربي. لقاءات تُقام ضمن أطر ضيّقة وعادية، كأن تُستدعى فرق مؤلّفة من أطفال أو مراهقين مثلاً، منجذبين إلى الفعل الغنائي ـ الموسيقيّ، من دون أن يتسنّى للنادي ولإدارة المعرض إيجاد وسائل عملية أعمق وأهمّ لإثارة انتباه زائري المعرض، وحثّهم على حضورها، فإذا بلقاءات كهذه تبقى مجرّد عناوين موضوعة في برنامج الأنشطة.

غياب الدور والمعنى

غير أن المأزق الفعلي الذي يُعانيه "معرض بيروت العربي الدولي للكتاب" كامنٌ في السؤال المركزيّ: ما هو دوره في تفعيل صناعة الكتاب ونشره وتوزيعه؟ الواضح لغاية الآن أن مسؤولي النادي واتحاد الناشرين وإدارة المعرض يواجهون صعوبة كبيرة في إنقاذ الكتاب من التحدّيات الجمّة التي يواجهها: أولاً: ارتفاع نسبة الأمية في العالم العربيّ. ثانياً: ازدياد حدّة الرقابات العربية المختلفة وعنف ممارساتها ضد كتّاب ومفكرين. ثالثاً: اتّساع رقعة المتعاملين مع التقنيات الحديثة، وبعضها معنيّ بالكتب مباشرة. رابعاً: غياب عناوين "جاذبة"، غير تلك التي يعتادها "قرّاء" محتملون، في مجالات محدّدة، كفن الطبخ وعلوم الفلك والأبراج والدراسات الدينية الإسلامية المتنوّعة. غياب عناوين كهذه تجمع بين عمق النصّ وبراعة السجال وجمال الشكل أساسيٌّ في إصدارات كثيرة جداً، يتباهى أصحاب دور نشر بقدرتهم على تقديمها، من دون أن يتناسوا تكرار مقولة مملّة هي أيضاً: هناك عجز ماليّ دائم، علماً أن معظم العناوين صادرةٌ بأموال مؤلّفيها.

اقرأ أيضًا: غلاف الكتاب والحب

المأزق الفعليّ كامنٌ في غياب سياسة السوق أيضاً عن عمل المعرض، التي يتوجّب عليه تحقيقها كي لا يبقى مجرّد واجهة جديدة لا تختلف أبداً عن واجهات مكتبات قليلة قائمة في المدينة، تبدو كأنها تستجدي قرّاءً محتملين.

الأرقام المتداولة غداة انتهاء كلّ دورة من دوراته، أو الموزّعة أثناء انعقاده، لن تكون تأكيداً على "نجاحٍ" يتباهى به النادي، لكنه يبقى أسير شكليات عابرة، كأن يُقال إن عدد زائري هذه الدورة أو تلك يصل إلى نحو 300 ألف زائر، تأتي غالبيتهم الساحقة إلى مركز "بيال"، حيث يُقام المعرض، للتنزّه بين المنصّات وفي الأروقة، أو للقاءات تتمّ في كافيتيريا محتاجة، هي أيضاً، إلى تأهيل جذريّ في مستوياتها الخدماتية كلّها. أو كأن يُقال إن مبيعات هذه الدورة تتجاوز مبيعات الدورة السابقة عليها بنسبة 30 في المئة مثلاً، علماً أن التدقيق في الأرقام يكشف أن أكثر الكتب مبيعاً منتمية إلى نوعي "فن الطبخ" و"الفلك والأبراج"، قبل أن ترتفع ـ ولو قليلاً ـ نسبة مبيعات الكتب الدينية تحديداً، مع موجة صعود الفكر التكفيري في الأعوام القليلة الفائتة. الشعر معقودٌ على أسماء قليلة للغاية، والرواية تحاول أن تتغلّب على نفسها كي تفرض عناوين جديدها.

على الرغم من هذا كلّه، يبقى "معرض بيروت العربي الدولي للكتاب" إحدى العلامات الفارقة في التاريخ الثقافي للمدينة وللنادي معاً.

(كاتب لبناني)
المساهمون