في عصر الازدهار الفكري والثقافي إبان الخلافة العباسية، استقدم الخليفة المأمون عالم اللغة أبو زكريا الفرّاء، وأوكله بجمع أصول النحو في مؤلّف واحد، فعكف عليه لعامين كاملين وأُحضر له الورّاقون والكتبة يملي عليهم وهم يكتبون حتى وضع كتابه "الحدود" الذي ضبط فيه قواعد العربية في مرحلة غلب العجم على سكان الدولة الإسلامية.
حظي صاحب كتاب "الأيام والليالي والشهور" بمكانة عالية في زمنه، ووصفه المؤرخ ابن خلكان بقوله "كان أبرع الكوفيين، وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب، إذ كان في اللغة بحراً، وفي الفقه عارفاً، وفي الطب خبيراً، وبالنجوم ماهراً، وبأيام العرب وأشعارها حاذقاً..".
عن "معهد المخطوطات العربية" في القاهرة، صدر حديثاً كتاب "معاني القرآن.. سياقه المعرفي وخطابه اللغوي"، لأستاذ التفسير وعلوم القرآن الباحث عبد الرحيم الإسماعيلي الذي قام بتحقيق أبرز مؤلّفات الفرّاء، ضمن السلسلة المحكمة التي ينشرها المعهد.
يعالج البحث إشكالاً أساسياً يرتبط باهتمامات المؤسس الأول لعلمي النحو والمعاني في التاريخ العربي، والذي تتلمّذ على يد أبي علي الكسائي، زعيم المذهب الكوفي ومؤسسه، وقد انتخب في هذا الكتاب المفردات الغريبة والمستعصية على الفهم بأسلوب سهل، بعيداً عن التعقيدات.
يقارب الباحث واقع الدرس اللغوي خلال القرنين الثاني والثالث الهجرييْن، ويرصد لحظة ولادة البلاغة العربية وتطوّرها، وتعلل تجلياتها، ومظاهرها، من خلال قاعدة أساسية هي "الكتاب أعرب وأقوى في الحجة، لأنه جاء من عند الله، بلسان عربي مبين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه"، حيث عاد إلى تأصيل المعنى عبر ما ورد في القرآن من جذور واشتقاقات.
يتبع الفرّاء في تفسير الغريب قاعدة واحدة تتمثّل في شرح الآية بالآية، ثم بالحديث إذا تسنى ذلك، ثم بالشاهد الشعري، أو المثل، أو الكلام الفصيح. وإذا تعرض لأسباب النزول فإنما يروي بالسند عن أئمة المفسرين من الصحابة والتابعين.
ولم يغفل دراسة النسق الصوتي للقرآن، مدركاً وزن القرآن والغاية التي عمد إليها في التزام وزن بعينه، وهو الترابط بين الكلمات وانسجام النغم، وتوافق الفواصل في آخر الآيات، حيث يشير إلى أن القرآن في عدوله عن لفظ إلى آخر، أو تعديله للألفاظ، لا يخرج عن أساليب العرب، وفنون القول عندهم، وخاصة في الشعر وهو الكلام الموزون، الذي يشابه ما في نظمه من توافق وانسجام ما يراعيه أسلوب القرآن.