طوال رحلته الطويلة بحثاً عن مكانٍ آمن له يقيه وعائلته من انتقام "طالبان"، لم يتخلّ المُخرج الأفغاني حسن فاضيلي عن فكرة ربط تجربته الشخصية بالمناخ العام المحيط بها. صوِّر بكاميرات هواتف محمولة، مُعتبراً أنّ التقاط التفاصيل الخارجية، في أشدّ ظروف التصوير صعوبة، أسلوب تعبير خاصّ به، يُجنِّبه تكرار تجارب وثائقية مماثلة اعتنت بـ"الشخصية"، وأهملت المفردات الأخرى. في الوثائقيّ الجديد له، "مُسافرو مُنتَصف اللّيل" (2019)، لم تكتفِ كاميرات العائلة الثلاث برصد تحرّكاتهم ونقل حواراتهم، فهي، خلال ثلاثة أعوام، جاورت وجودهم بالعالم المحيط بهم.
من دون عناصر أخرى توظّفها، بقي ما تثبته الكاميرا ناقصًا. في هذه الحالة، يلعب المونتاج دورًا مهمًا في تشييد البناء السردي بمستوياته كلّها. صَبرُ أَميلي ماهدافيان (مونتاج وسيناريو) في تلخيص مئات ساعات التصوير جليٌّ. أعادت كتابة سيرة العائلة، واقترحت على فاضيلي إضافات جديدة، بينها تعليقات واقتباسات أدبية. تابعت رحلته خطوة خطوة، واشتغلت مباشرة على كلّ جزء يُرسله إليها من منفاه القسري. قناعتها بموهبته أبقاها لصيقةً بما يُصوّره، وعلى الخامات تُركِّب نصًا صعبًا ينقصه الكثير: الصوت مُشوّش في مقاطع كثيرة، و"فورمات" التصوير مختلفة بحسب نوع الهاتف، والألوان غير منضبطة. مع ذلك، يُلاحظ بوضوح وجود متلازمة "الذات والمحيط" في كلّ ما يصلها من خامات تصوير. بتدخّلها، لم يعد النص مرهونًا بالكاميرا المحمولة، بل برؤية حاملها.
حسن فاضيلي ليس السينمائي الوحيد الذي صوَّر فيلمًا وثائقيًا بكاميرا هاتف محمول، ولا أول مَنْ وَثَّق بها دروب عذاب، سار عليها هاربون وباحثون عن سلام منشود. فالاشتغال بكاميرات هواتف ذكية، محدودة القدرات، قلّما يكون خيارًا. غالبًا ما يفرضه واقع ضاغط.
هذا ملموس في تجارب وثائقية جيّدة، علمًا أن المستوفية شروط صناعة "الفيلم" قليلة. فيلمه أحدها. التزكية مبنيَّة على المحصلة النهائية المنقولة على الشاشة، لا على الظروف المحيطة بإنجازه. والمحصّلة تقول إن منجز حسن فاضيلي لا يشبه غيره.
المقاطع المقروءة بصوت ابنته نرجس (10 أعوام) ـ المأخوذة من "وحش الأنا" لسيّد بهاء الدين مجروح، والمختومة بعبارة جان بول سارتر "الجحيم هم الآخرون" ـ تتجاوز وظيفتها كمفتتح وتمهيد لسرد ما بعده، وفق متطلبات "دراماتولوجية". العبارات موظَّفة لصالح رؤية والديها لمآلات حياتهم وانقلاباتها الدراماتيكية.
بعد إنجازه وثائقيًا عن قائد منهم تركهم ودعا إلى نبذ العنف، أجبر "الآخرون"/ طالبان حسن فاضيلي على مغادرة كابول، والتخلّي عمّا يملكه فيها، واستجداء أمان مطلوب خارجها. خلال إعادة ترتيب حياته مونتاجيًا، ووضعها في سياق زمن سينمائي، تتّضح شدّة علاقته وزوجته فاطمة بالسينما والحياة المدنية، المرتجاة في مدن غابت عنها معالم المدينيّة، وفُرض عليها ارتداء زيّ يريده متشدّدون يكرهون الحواضر، مفضّلين عليها مغارات الجبال.
عمل المخرجان حسن وفاطمة في السينما والتلفزيون. له مسلسلات تلفزيونية ووثائقيات لحساب التلفزيون الأفغاني. فتح "مقهى الفن"، الذي أراده ملتقى لمحبّي الحياة والفنون. لم يحتمل الآخرون طموحاته، فأغلقوه بالقوّة. بعد عرض فيلمه "السلام الأفغاني"، قرّر مسلحو "طالبان" تصفيته.
رحلته مع زوجته وابنتيه إلى طاجكستان طلبًا للجوء انتهت بالرفض. "الآخرون" لا يريدونه بينهم. تدفعه غريزة التشبّث بالحياة إلى رحيل أبعد، نحو أوروبا، عبر دروب الجحيم. مسارات الرحلة، عبر إيران وتركيا، والمكوث في معسكرات بلغاريا وصربيا، وصولاً إلى هنغاريا، عرضت أمامهم عالمًا لم يتصوّروا وجوده. مهرّبون جشعون لا يتردّدون عن تركهم عُرضة للنهب والموت في العراء. آلاف الأميال مشتها العائلة، التي التقت خلالها من امتلك سطوة وقدرة على تغيير دروب رحلتهم وحياتهم. نذالات أنظمة وقساوة بشر ومزاج طبيعة متقلّب، ثُبِّتت تفاصيلها بكاميرات هواتفهم المحمولة. عدساتها تريهم وجوهًا بغيضة. أشهر مديدة لم يتخلّوا فيها عن كاميراتهم لحظة واحدة. أضحت دليلهم لمعرفة الآخر، لا مجرد توثيق ما مرّوا به.
التجربة أنضجتهم، وأعادت تقييمهم لأنفسهم وللآخرين، لذا لا بُدّ من تثبيتها سينمائيًا. في مقاطع منتقاة، ينفتح الجميع فيها أمام ذواتهم، ينجلي فعل الزمن عليهم. ما تركوه وراءهم لم يعد، بالنسبة إلى الطفلتين، طموحًا. عيشهم في المعسكرات كشف لهم حياةً أخرى غير كابول. التحفّظ أُزيل، وحرية التعبير اتّسعت. الكاميرا علّمتهم المُصارحة. لا مواربة فيما تلتقط. الإضافات يُراد بها إضفاء مزيد من قوّة التعبير على ما صوّرته عدساتها، وكغيرها يمكنها أن تكون "كابوسًا" إذا أصرّت على إتمام المهمة من دون رغبة حاملها.
هناك مشهد مركّب من عنصرين: خلفية سوداء وصوت (فويس أوفر) يوضح خوف المخرج لحظة اختفاء ابنته الصغرى، وبحثه عنها. الكاميرا تصوّرها كـ"الآخرين". بشعةٌ (الكاميرا) هي، إذْ تصرّ على ما تريد أخذه. "ماذا لو التقطت عدسة كاميرتي صورة طفلتي في وضعية لا أتمنى مشاهدتها فيها؟".