"مؤتمر قصيدة النثر المصرية": إشكاليات محلّية الصنع

25 اغسطس 2016
(من تجهيز أمام الأهرامات للفنان الألماني ها شولت، 2002)
+ الخط -

تشبه قصيدة النثر في البلاد العربية، بحساب سنوات وجودها مقارنةً بعمر الشعر العربي كلّه منذ عصر ما قبل الإسلام إلى الآن، طفلاً لا يعترف به ذووه. والاعتراف المشار إليه هنا في ما يخصّ قصيدة النثر لا يُقصد به الحصول على صكوك رسمية - وإن كان ذلك مطلوباً أحياناً - لكنه يهدف إلى تحقيق اهتمام مجتمعي عام يُمكن به التخلّص من سؤال: هل هذا شعرٌ بالفعل؟

هذه الإشكالية المتجدّدة عربياً، أُضيفت إليها، قبل عام أو ما يزيد قليلاً، إشكالية أخرى، وإن كانت محلّية الصنع، حيث قام مجموعة من الشعراء المصريين بتدشين تظاهرة أطلقوا عليها "مؤتمر قصيدة النثر المصرية"، انطلاقاً من متابعة ورصد للتجربة المصرية عبر ما يكتبه شعراؤها، أو ما يُترجم إلى العربية من خلالهم.

هذا ما صرّح به الشاعر المصري عادل جلال، منسّق المؤتمر، الذي انعقدت دورته الثانية مؤخّراً، في حديثه إلى "العربي الجديد". يوضّح "عبر هذه المتابعات وجدنا تمايزات أسلوبية وجمالية لصالح الشعراء المصريين. ومن هنا فكّرنا، وبلا أية شوفينية، في المؤتمر، من أجل تحديد نقاط القوّة هذه، والتأكيد عليها وتأمّلها".

ما يطرحه جلال يبدو وكأنه يمنح المكان الجغرافي استقلالَ النوع الأدبي، أي أن "قصيدة النثر المصرية" نوع إبداعي بحد ذاته، ولا يرفض هو الوصف، بل يؤكّده بالقول "هناك أنواع طبعاً: توجد القصيدة الأميركية والقصيدة الإسبانية وغيرهما. الأنواع توجد بالقوّة البيولوجية وبالمكان الجغرافي. هذه طبيعة الشعر والفن عموماً".

يضيف شارحاً "حين أشاهد السينما المكسيكية، فأنا في حقيقة الأمر أشاهد المكسيك، أشاهد روحها وحياة أبنائها. السينما المكسيكية، مثلاً، قدّمت "زقاق المدق" لـ نجيب محفوظ، لكنك لا ترى الحواري المصرية في هذه النسخة من الفيلم، إنما ترى المكسيك".

في السياق نفسه، لا يوافق جلال أن حديثه يخلط بين حدود الجغرافيا ووحدة اللغة، أو أنه يمنح الأولى سعة الثانية. مثلاً، ثمّة قصائد أفروأميركية أو أنغلوساكسونية أو إسبانية، يشترك في كتابتها ملايين المواطنين من بلاد شتى، والأمر ذاته ينطبق على العالم العربي في مجموع نتاجه الأدبي.

لكن جلال يعلّل رفضه بالقول "بداخل كل لغة هناك تمايزات وطنية، فالإسبانية في إسبانيا غير الإسبانية في نيكاراغوا. هذا الاختلاف الجغرافي هو جوهر القصيدة. بودلير كمثال، إضافته الكبرى إلى قصيدة النثر في العالم كانت وصفه لروح الإنسان الفرنسي في حينه، تأثيره الأكبر كان انطلاقاً من محلّيته".

التمايزات النوعية التي يتحدّث عنها جلال بشأن القصيدة "المصرية"، عرض لها الناقد والشاعر شريف رزق في ورقة بحثية بعنوان "مسارات قصيدة النثر الراهنة"، كان قدّمها في الدورة الثانية للمؤتمر والتي انعقدت نهاية تمّوز/ يوليو المنصرم في دمنهور.

وفي ما يشبه مسحاً زمنياً لتاريخ قصيدة النثر، بدأ رزق ورقته من مطلع القرن العشرين مع تجربة أمين الريحاني الذي بشّر بالشعر المنثور، مروراً بجيل السوريالية المصرية في الأربعينيات، ووصولاً إلى التسعينيات التي رأى رزق أنها شهدت "انفصال الشعر عن مرجعه القديم، وتمصير الخطاب الشعري عبر اعتماد آليات جديدة".

يعدّد رزق تلك الآليات؛ ومن ينها: هيمنة النزعة الشخصية، وأسطرة المعيشي واليومي، والتركيز على النزعة البصرية، والبساطة والعمق، واعتماد الهامشي والمنفي، واللجوء إلى المعيشي بدلاً من المعجمي، مؤكّداً أن هذه الآليات الخاصة بقصيدة النثر المصرية اعتُمدت في عواصم عربية كثيرة، حتى في أماكن هيمنة أساسية كلبنان.

لا يقف الأمر إذن عند الشوفينية، وهي تهمة وجّهتها أصوات عربية وحتى مصرية إلى منظّمي المؤتمر، إنما هناك محاولات موازية لتأسيسٍ بحثي للفكرة والعنوان الذي يتبنّاه صانعو التظاهرة.

يبدو هذا جلياً في برنامج الدورة الثالثة التي ستنعقد في الفترة من 18 إلى 21 أيلول/ سبتمبر المقبل، حيث يشارك باحثون من المغرب والجزائر والسعودية - إضافة إلى نظرائهم المصريين - بأوراق بحثية عن "قصيدة النثر المصرية".

يقول جلال "كان شرطاً لقبول الأوراق البحثية هو أن تكون عن القصيدة المصرية، لكن أيضاً سيكون هناك شعراء مغاربة يقرؤون قصائدهم ويقدّمون لتجربتهم. نريد أن ننظر إلى كل التجارب العربية الأخرى، لكن من خلال تجربتنا".

لعلّ ذلك ما تؤكّده برمجة الأوراق البحثية في الدورة القادمة للمؤتمر؛ إذ أن ما يلفت الانتباه، أيضاً، هو انتقال ظاهرة الأقلمة للقصيدة من حالتها المصرية إلى بلدان عربية أخرى. يظهر ذلك في البحث الذي يقدّمه عبد اللطيف الوراري بعنوان "قصيدة النثر المغربية: وعي كتابي وجماليات مغايرة". صحيح أن الورقة البحثية ستبدو هامسة في زحام الأوراق التي تعالج القصيدة المصرية، لكنها إشارة ربما إلى تكرارات لاحقة.

في كتابه "الكتابة والتناسخ، مفهوم المؤلّف في الثقافة العربية"، كان الناقد والأكاديمي المغربي عبد الفتاح كيليطو قد أشار إلى أنه "من العسير الحديث، في الثقافة العربية الكلاسيكية، عن أسلوب خاص يميز فرداً بعينه، فهنا يختص كل نوع بأسلوب في الكتابة، وأعني مجموعة من السمات التي تلفيها في مؤلّفات عدّة".

بعيداً عمّا يمثّله المقطع السابق من حصر لفكرته في الثقافة الكلاسيكية، لا يوافق جلال على استعارة الفكرة وإمكانية اعتبار قصيدة النثر في بعدها العالمي نوعاً أدبياً يتّسم بسمات شكلية وجمالية ما، يتمايز فيه الأفراد بتجاربهم الخاصة. لكن تبقى السيطرة للنوع نفسه ككل.

يحاجج بقوله "حتى قديماً، كانت هناك اختلافات كبرى بين شعراء النوع الواحد، غزل عمر بن أبي ربيعة غير غزل كثيّر عزّة، وابن سلام الجمّحي وضع كتابه "طبقات فحول الشعراء" من أجل هذا، بحيث قسّمه تقسيماً فنياً أبرز فيه أسباب التمكّن والإجادة لمستويات أقوى وأضعف. ونحن نرى الآن أن قصيدة النثر المصرية امتازت عن غيرها بأشياء كثيرة، وقدّمت نموذجاً انتقل إلى الشعر العربي الحديث كلّه تقريباً".

يبدو هذا السجال وقد بدأ يمرّر للساحة الثقافية العربية بعضاً من مقولاته، لكن هل ننسى أن جذوره تضرب في خيارات من خارج دائرة الثقافة؟

دلالات
المساهمون