"لمسة مميتة": سامي بن عامر ومسارات الرسم التقني

21 مايو 2020
(تفصيل من أحد أعمال مجموعة "لمسة مميتة")
+ الخط -

لم يفرض فيروس كورونا نفسه على الفن كثيمة فحسب، بل غيّر في معادلات التلقي، فمع غلق الغاليهرات أبوابها لم يبق غير الفضاء الافتراضي كمساحة تواصل وتفاعل بين الفنانين والجمهور، كما غيّر من طقوس الفنانين أنفسهم وهو ما نجد أثره مع التشكيلي التونسي سامي بن عامر الذي قدّم معرضاً افتراضياً بعنوان "لمسة مميتة" يحضر فيه فيروس كورونا كثيمة وكإطار تعبيري.

في حديث إلى "العربي الجديد"، يقول الفنان التونسي: "بحكم الحجر الذي فرضه الوباء على الجميع، تخلَّيت على التنقّل إلى مرسمي للعمل فيه، وجلست في المقابل أمام الحاسوب لإنجاز مجموعة رسوم رقمية. وقد سعيت أن تُترجِم هذه الأعمال ما عشناه ولا زلنا نعيشه في زمن هذه الجائحة. فاللّمس، هذه الحاسة الأساسية للإنسان ومصدر الرقة والطاقة والمرادف للتواصل والمداعبة والمودة والتواصل والتجسيد العاطفي ورمز الإنسان الاجتماعي، أصبح ممنوعاً ومراقباً بل مصدراً للهلاك. وهو ما يعبّر عنه عنوان المعرض: لمسة مميتة".

يضيف: "أنجزت حول هذا الموضوع عشرين عملاً رقمياً، وقمت بنشر هذه الأعمال تِباعاً على صفحتي بطريقة يومية منذ بداية أيام الحضر الصحي. ثم جمّعتها لتكون موضوع معرض افتراضي ثلاثيّ الأبعاد وفي شكل فيديو على قناتي الخاصة في يوتيوب، وهو يدوم ثلاث دقائق وستاً خمسين ثانية. وقد أعلنت عن هذا المعرض في صفحتي قبل أيام من انطلاقه من خلال ملصقة تم تصميمها للمناسبة. هذه الفكرة لم تكن تخطر على بالي لو لم نعش هذا الحظر الصّحي، فهي وليدته".

في الأعمال التي قدّمها، يبدو بن عامر وقد انطلق في رسوماته الرّقمية من نفس المفردات البصرية التي تحضر في مجمل أعماله. يقول في هذا السياق: "يتميّز الفيروس التاجي بشكله الدائري وبالأشواك التي يحملها هذا الشكل على محيطه حيث تصبح مشابهة لتاج الملك. وقد جعلت من هذه الخصائص الشكلية مرجعيات أسّسْتُ من خلالها لأسلوبية خصصت بها هذه المجموعة من الأعمال. حتى أشكال الشّخوص الآدمية التي أرسمها باتت مكوّرَة ومُشوّكَة".

يشير الفنان التونسي إلى أن تجربته مع الرسم الرقمي لم تبدأ بمناسبة كورونا تحديداً، حيث بدأ اعتماده على التقنيات الافتراضية منذ ثلاث سنوات. يقول: "بدأ ذلك عندما وجدتُ نفسي صدفة أنجز بعض الرسوم الرقمية باستخدام برنامج Paint المتاحة على جهاز الكمبيوتر. لعبة للتسلية تحوّلت بسرعة إلى لعبة فضول واكتشاف. كانت النتيجة مفاجئة، حيث كشَفَت رسومي عن شُخوص تتميّز بخطوط عفوية وحرّة وتنقل شحنة تعبيرية أثارت فضولي وقادتني إلى تعميقها في سلسلة من الرسوم واللوحات الرقمية. ولعل معرضي الافتراضي "لمسة مميتة"، هو تتويج لهذه التجربة".

يرى بن عامر أنه "من المؤكد بأن الرسم الرقمي يختلف تماماً عن الرسم على القماشة، إذ يصبح فيه الحامل شاشة كمبيوتر أو شاشة هاتف ذكي، والانتقال من فضاء إلى آخر ممكن. وكل حامل من هذين الحاملين له إسهامه في العملية الإبداعية، وهو ما سعيت لتوظيفه في تجربتي هذه".

يضيف: "تتغيّر الأدوات أيضاً في الرّسم الرقمي لتصبح فأرة ومجموعة من الأزرار نعتمدها باستخدام البرامج المناسبة. ونكتشف أيضاً فرشاً افتراضية يمكننا أن نطوّع شكلها أو نُغيِّرها أو نُسطّحها أو نحوّلها إلى بخاخة وفق حاجياتنا التصويرية. هناك أيضاً ممحاة وأقلام رصاص وفرش ولوحة ألوان. وإن كان الرسم الرقمي يستعير العديد من خصائصه من الرسم على القماشة، فهو مختلف بشكل أساسي. ويتيح لنا طريقة في الاكتشاف بشكل مختلف. ومن أهم خصائص الرسم الرقمي، لمعانه. ولعل الحافز الذي دفعني إلى إقامة معرض افتراضي لأعمالي الرقمية على يوتيوب هو اختيار مدروس يضمن الحفاظ على لمعان العمل الرّقمي وجودته المضيئة".

من جانب آخر يلفت محدّثنا إلى أن "الرسم الرقمي يحرّر الفنان من اللمسة الأولى كما هو الحال في لوحة قماشية تخضع لنهج خطي. فمن الممكن العودة إلى نقطة سابقة في رحلة الرسم الرقمي. بالإضافة إلى ذلك، فإن الارتباط بين الحلول المختلفة لنفس العمل، يمكن أن يؤدي إلى مستجدات غير متوقعة وأيضاً إلى مجموعة من الأعمال المختلفة والمنبثقة من نفس العمل والتي يمكن أن نؤهلها كعمل فني في حد ذاته، عمل مُتعدِّد. فالعشرون عملاً فنياً التي يتضمّنها معرضي الافتراضي "لمسة مميتة" ليست في الواقع الأعمال الوحيدة التي تنتمي إلى هذه المجموعة، بل يصاحب كل عمل منها سلسلة من الأعمال الأخرى المشتقة منها والمستقلة عنها".

يضيف: "علاوة على ذلك، فقد وجدت في اعتماد تلقائية الحركة التي فرضها استعمالي للفارة، عملية أسلوبية مناسبة لإنجاز رسومي الخطية التلقائية والتي تتميز بخطوطها المتواصلة والمتفاوتة والمتعرجة المليئة بزوايا ونقاط تحول. وقد استهلّيت بها إنجاز رسومي الرقمية وهو ما يختلف عن طريقتي في التعامل مع رسومي على القماشة التي أبدأها دائماً باعتماد اللون أو الخامات. وجدير بالإشارة أنه يجب أن نُميِّز في الرّسوم الرقمية عموماً، النتيجة البسيطة والتطبيق الآلي عمّا ينبثق بشكل خاص عن الفنان وإبداعه".

يؤكّد بن عامر أن اللوحة الرقمية كشفت له عن سبل جديدة في تجربته التشكيلية، وإن ظلت مع ذلك متوافقة مع استراتيجياته الإنشائية والجمالية التي تميز جميع أعماله التصويرية. يقول: "في إنجازي لرسوماتي القماشية، أتبع دائما منهجية تعتمد جملة من المراحل. وتفترض هذه الطريقة تعدُّد المسارات التي يجب اتباعها وتعدُّد الاحتمالات التي تثير مخيلتي وتمنعني من تصوّر الحل النّهائي مُسبقاً. فالإبقاء على الإدراك النّهائي للعمل الفني مفتوحاً على نطاق واسع باللجوء إلى تغييرات وتحولات على مستوى الشكل خلال سياق الابداع، يسمح لي باكتشاف مجالات إبداعية جديدة وثرية".

يضيف: "إن اهتمامي بشكل خاص باللامُتوقع وبالصّدفة، علمني أن اكتشف في ممارساتي التصويرية انبثاق العمل بطريقة متدرجة، لأنه يكتمل، يتوضّح ويصحّح نفسه في إطار تقدُّم الفعل الإبداعي. وهو ما يمثل استراتيجية فنية أستخدمها في ممارستي الفنية ومن بينها رسوماتي الرّقمية. وهي أيضاً نتيجة عدّة مراحل متتالية. حيث تولد كل مرحلة - بدءاً بالمرحلة الأولى المتعلقة بالرسوم الخطية التي يتم إنجازها باستخدام الفارة - قرارات ونتائج مؤقتة، دون أن تكون قادرة على تصور علاقتهما الدقيقة بالعمل الفني النهائي. ثم تأتي مرحلة اللون. وستنشأ مراحل أخرى أيضاً تتفاعل فيها كل العناصر الخطية واللونية والمفهومية، وهو ما من شأنه أن يفتح الطريق أمام تجليات التعبير غير المتوقّعة".

على مستوى المفردات الشكلية، يشير: "لقد حافظت فعلاً في رسومي الرقمية على جملة المفردات التي طبعت رسومي على القماشة. فتعاملي مع الدّائرة مثلاً ليس جديداً وكذلك تعاملي مع الدّاخل والخارج ومع الميكروكوزم والماكروكوزم، أي مع العالم الصغير والعالم الكبير. ومثل هذه المواضيع ليست مسقطة في هذا المعرض الافتراضي بل هي في اتصال جوهري بمضمونه".

بموازاة الأبعاد الجمالية والتقنية، تحضر في مجموعة "لمسة مميتة" تفاصيل مضمونية، وحولها يقول الفنان التونسي: "أن تكون تشكيلياً، يُفترض أن تكون قادراً على التّفاعل مع وضعيات مختلفة ومتغيِّرة. ولعله من الطبيعي جدّاً أن يتفاعل الفنان مع هذه الوضعية التي تعيشها الإنسانية جمعاء. وهي فعلاً ملهمة له بل تدفعه إلى التفكير في عديد المعاني ذات العلاقة بوجودنا اليوم وبالعلاقات في ما بيننا. فليس من الهيّن أن تُصبح مصافحة الآخر وتقبيله مصدراً للموت وهي التي تمثل عنواناً للمودة والتواصل الاجتماعي".

يضيف: "لا أرى أي اختلاف بين ما هو اسطيتيقي وما هو في علاقة بالموضوع. فالطرفان يتداخلان في ما بينهما مثلما يتداخل الشكل والمضمون. فالاسطتيقا هو ما يحدثه العمل الفني من شعور فينا، فقد نشعر أمام عمل فني بالبهجة أو بالحزن أو بالتراجيديا أو بغير ذلك من الأحاسيس المختلفة. أما الموضوع فلا علاقة له في أعمالي بالطابع الوثائقي، بل هو ما ينبع من كل لمسة وعلامة وعناصر بصرية ولون وغير ذلك من العناصر التشكيلية، والتي جميعها تصبح منطلقاً للتعبير عن الموضوع ومصدراً للتأويل".

يطلعنا المعرض على وضعية تراجيدية للإنسان اليوم. ففيه نلمح شخوصاً خطية بأذرع ممتدة تتقاطع وتتلامس بأصابعها على شكل تيجان، وبوجوه دائرية مماثلة لشكل الفيروس. وهي تذكرنا بشخوص غويا في لوحاته السوداء أو بشخوص بيكاسو في لوحة غيرنيكا. تعبّر هذه الشخوص عن مواقف مأساوية تثير فينا الشعور بالعجز والخوف. وتتجول هذه الشخوص في مساحة خارجية ثم تنحدر إلى داخل الدائرة المغلقة، حيث تتراكم وتُحاصر. يوضّح بن عامر: "موضوع الدائرة يستهويني دائماً وهو الذي يحيلنا إلى الأرض التي تعيش اليوم أزمات متكررة، إيكولوجية وعقائدية واقتصادية. ما نرجوه فعلا هو أن تستمر هذه الأرض في دورانها".

وحول التجاوب مع الأعمال التي يعرضها على مواقع التواصل، يقول محدثنا: "هناك انتباه منذ اليوم الذي شرعت فيه بإنجاز رسومي الرقمية ونشرها على صفحتي الخاصة. وكلّما تقدمت تجربتي زاد الانتباه. وقد سعيت أن تكون أعمالي مختلفة وغير متكررة، وهو ما زاد ربما في توسيع شريحة المتابعين ممن ساهموا بحضورهم وبتعليقاتهم ومن بينهم التشكيليون الزملاء. وقد تلقيت عديد الدعوات للمشاركة ببعض هذه الأعمال في صفحات أخرى وطنية وعربية ودولية مخصصة لموضوع الفيروس التاجي".

كيف يقرأ الفنان اليوم دور مواقع التواصل مع توقف الغاليريهات؟ يجيب بن عامر: "مكّنني هذا المعرض الافتراضي من تحويل عزلتي إلى منطلقٍ لغزو فضاءٍ رحب، حيث تمكَّنتُ من التواصل مع عدد كبير من المبحرين في الفضاء الافتراضي، مخترقاً بذلك حدود الجغرافيا، ما يُثبت أن هذا الفضاء الذي أصبح مُتاحاً للجميع، هو الفضاءُ الأكثرَ ديمقراطية الذي عرفه البشر. فلم يعد الفنان التشكيلي رهين قاعة العرض القادرة بمفردها على التّعريف بأعماله، وما نحن نلاحظه اليوم من ظهور منصات افتراضية تهتم بتسويق الأعمال الفنية ليس إلا ترجمة عن هذه النقلة النّوعية".

يقدّم المعرض الافتراضي "لمسة مميتة" فيديو يشبه مسار مشاهد في غاليري؛ حيث يمرّ بين الأعمال الفنية في فضاء افتراضي، وكأنه معرض يحمل كل مواصفات المعارض التي نعرفها، غير أن الفارق الوحيد أنه شمل رسوماً رقمية تم تقديمها على حامل افتراضي. عن ذلك يقول بن عامر في ختام حديثه إلى "العربي الجديد": "الرسم الرقمي والعرض الافتراضي يمكن مناقشتهما بالطبع من حيث المفهوم، لكن من المؤكّد أنهما سيفتحان لتجارب أخرى مماثلة لي ولغيري من الفنانين".

المساهمون