هنا ملاحة "كراربة" التي تمتد على طول الملاحة المغربية التابعة لمنطقة أولاد غانم بالواليدية (158 كلم عن الدار البيضاء)، أحواض مربعة وأخرى مستطيلة يصل عمق الواحدة منها مترا، وهي متخصصة في استخراج الملح الطبيعي الذي ينتظره مسار طويل ليصبح في متناول المستهلك، فوق هذه الأحواض وضعت أغطية بلاستيكية من نوع خاص صلب وقادر على مقاومة درجة الملوحة.
يحتاج ماء البحر الذي يصل إلى هذه الأحواض عبر أنابيب تصب من البحر إلى الحوض إلى نحو أسبوع حتى يتبخر بفعل أشعة الشمس. فالأسلوب الأكثر اتباعا في استخراج الملح هو التبخير الشمسي. ولهذا، فإن هذا العمل "الموسمي" يزدهر كثيرا عندما يكون الطقس جافا ودرجة الحرارة مرتفعة.
داخل هذه الأحواض، يطلق العمال العنان لمعاولهم وقد أمسكوها جيدا. يرتج باطن الحوض بوقع الضرب. وسرعان ما تتحول طبقات الملح البيضاء إلى أجزاء يستمر العمال في تهشيمها إلى أن تصير بلورات بيضاء، ويقومون بنقلها خارج الحوض على شكل أهرام صغيرة متقاربة، وتترك لتجف.
يعمل داخل الحوض الواحد من 8 إلى 10 عمال، يترأسهم أكثرهم خبرة؛ يبدؤون عملهم قبل طلوع الشمس، ولا ينتهون إلا بعد استخراج الملح من الحوض. هذه المهمة تتطلب صبرا طويلا والكثير من الدقة، فبمجرد تحريك معول الكشط أكثر من المطلوب أو في اتجاه معاكس، يتكدر صفاء الملح، فيختلط بالوحل، وتنقص قيمته في السوق، حسب ما يقول أحد العمال.
بعد أن تجف أهرام الملح الصغيرة التي استخرجها "الملاحون" على طول الأحواض المنتشرة في المكان، يقومون بتجميعها عند مدخل الملاحة لتشحن إلى مصانع الملح في عدد من مدن المغرب.
لا مقابل مغرياً يعوض كل هذا المجهود، فاستخراج هذه المادة الأساسية لا يمنح العمال أساسيات الحياة، خاصة أن أغلبهم يأتون من قرى ومناطق بعيدة للعمل في مهنة موسمية لا تخضع لأي ضوابط أو قوانين تحمي عمال الملح، إذ يباع الكيلوغرام من الملح الخام بسعر لا يتجاوز درهما مغربيا واحدا.
"لا يستفيد من جهدنا سوى مصانع الملح"، يقول أحد العمال لـ"العربي الجديد": "المصانع تزود ما نستخرجه بمادة اليود لتعيد بيعه بسعر يفوق بأضعاف السعر الذي يسوق به الملح الخام في الأسواق الأسبوعية، أما ما نتقاضاه، فهو هزيل جدا، إذ يتراوح راتب العامل منا بين 50 و70 درهما".
بدوره، يقر يحيى العماري، رئيس ملاحة كراربة، لـ"العربي الجديد"، بأن مدخول هذه "الورش" إذا ما قورن بحجم المتاعب الجسدية والصحية التي قد يتسبب بها العمل في الملح، هزيل جدا ولا يغطي حاجيات العمال، ولا يضمن لهم تأمينا إذا أصيبوا بأي مكروه".
يعمل بالملاحة نحو 40 عاملا، يتوزعون بين استخراج الملح وشحنه إلى المصانع في الدار البيضاء وغيرها من المدن، ويؤكد العماري أنهم يتعاملون مع خمس شركات وطنية للملح، بالإضافة إلى مصانع، ومزودين من المطاعم وأيضا للاستعمال المحلي.
يقول: "هذا الملح مذاقه لذيذ ودرجة نقائه عالية ولونه أبيض كالحليب، وتكاد الشوائب تنعدم فيه، فلا طين عالقا ولا رمل ولا صلصال ولا كيماويات أخرى، لكن مع ذلك، فالإقبال عليه ليس بالدرجة التي تجعل الرضا يغمر من يكدون لأجله".
بوشعيب (42 سنة) واحد من هؤلاء العمال، يقول لـ"العربي الجديد": "فتحت عيني على الملاحة وأكوام الملح، كنت أرافق والدي وأنا ابن عشر سنوات، هكذا تلقنت أصول المهنة التي لم تورثني غير المرض، فأنا أعاني من التهاب المفاصل، نتيجة طول مدة العمل وسط أحواض الملح".
ويضيف: "نحن نستخرج الملح الذي يذهب إلى معظم المصانع في المغرب ونكدّ من أجل المادة التي لا غنى للمغاربة عنها، لكن ما نجنيه في المقابل لا يؤمن لنا ظروف العيش الكريمة، فكيف لأجرة هزيلة أن تغطي مصاريف أسرة من ثمانية أفراد".
أما عبد الله، فقد حاول أن يبدو أكثر تفاؤلا، حيث أكد أن عمله في الملح علّمه الكثير وأكسبه خبرة وتجربة عن مسار هذه المادة المهمة، متسائلا بنبرة من السخرية: "ما العمل الذي يليق بقروي لم يلج المدارس ولا تعلم حرفا، غير أنشطة الرعي واستخراج الملح والعمل بعرق الجبين لسد أفواه أبناء جياع".
لا ينتمي ملاحو "كراربة" إلى أي نقابة أو إطار يحمي حقوقهم من الضياع، فعملهم يخضع لصفقات تبرمها شركات أو رجال أعمال مع مكلفين بورش الملح، بحسب ما شرح لنا رئيس الورش يحيى العماري. لكن بالمقابل أكد أن بعضهم يمتلك ضمانا اجتماعيا، الأمر الذي نفاه العمال، مشيرين إلى أنهم بالكاد يتقاضون رواتبهم، ولم تطلب منهم أي وثيقة ليتحققوا من أنهم فعلا ضمن العمال المشمولين بالضمان.
يقول عبد الله: "العمل هنا عشوائي ودون تأمين وليست لدينا وثائق التغطية الصحية، وإن طالبنا بحقوقنا يكون مصيرنا الإهانة أولا ثم الطرد".