"كارلوفي فاري الـ53": فقدانٌ وحِداد

04 يوليو 2018
من "قصة الحب" لسونيا بروسانك (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
ألم الموت وتعطيل الحِداد سمتان متلازمتان معًا قبل التحرّر من الأول عبر انعدام الثاني. فالخروج من وطأة الفقدان الناجم من موت عزيز أو حبيب أو قريب يتمّ عبر عيش الحِداد، الذي يبدأ بقبول الموت تمهيدًا للتصالح معه، وإنْ يعجز التصالح، غالبًا، عن أن يكون كاملاً. 

هذا جامعٌ بين فيلمين اثنين يُشاركان في الدورة الـ53 (29 يونيو/ حزيران ـ 7 يوليو/ تموز 2018) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي": الأول بعنون "المرجوحة" (2018، لبنان) للّبناني سيريل العريس (مسابقة الأفلام الوثائقية، عرض دولي أول)، والثاني بعنوان "قصّة الحبّ" (أو "تاريخ الحبّ"، فالعنوان الإنكليزي والمناخ العام للنصّ السينمائي صالحان للترجمتين: History Of Love) لليوغوسلافية سونيا بروسانك (مسابقة الأفلام الروائية، عرض دولي أول).

وإذْ يبدو الأول رحلة في عوالم النفس البشرية المحطَّمة بفعل المرض والشيخوخة (أبٌّ عاجزٌ ومُقعد وتائه بين راهنٍ ينتبه إليه قليلاً وماضٍ يُقيم فيه أحيانًا)، أو بعامل الفقدان الذي يُصيب أمًّا بموت ابنتها؛ فإن الثاني ـ الذي يمتلك مفردات الرحلة نفسها وإنْ بصُور وتعابير مختلفة ـ يذهب بعيدًا في الاغتسال القاسي من مواجع الخراب المدوّي في ذاتِ شابّةٍ تفقد والدتها في حادث سيارة تغرق في نهرٍ وهي (الشابة) معها في السيارة نفسها، ومن الآلام الحادة لمخاض الخروج من حِدادٍ مطلوب.

في مقابل ثبات العنوان العربي للفيلم اللبناني بمفردة واحدة (المرجوحة) تُشير إلى تأرجح بين تناقضات أو حالات أو أزمنة أو خطوات أو مواقف؛ فإن النصّ السينمائي لفيلم اليوغوسلافية بروسانك (2018، إنتاج مشترك بين سلوفانيا وإيطاليا والنرويج) يُتيح تأمّلاً في ترجمتين مختلفتين، لعلّهما تتكاملان أيضًا إحداهما مع الأخرى. فالفيلم قابلٌ، في معنى ما، أن يختصر معنى الحبّ في تاريخٍ مديدٍ من الألم والعشق والارتباكات والجمال والالتباسات والمخاوف والاضطرابات والبوح والمتع. كما أنه قادرٌ على اختزال هذا كلّه في إحدى قصص الحبّ المفتوحة على أنماط من التعبير والبوح.

ذلك أن الشابّة إيفا (دوروتيا نادْرَا) تعيش مزيجًا صاخبّا وقاسيًا من ألم الموت وتعطيل الحِداد واختبار الحب بأحواله وثقله الإنساني والجمالي، في آنٍ واحد. تفقد والدتها في حادث سير تنجو هي منه، وتخوض اختبارًا قاسيًا لصُنع حِدادٍ يليق بالفقدان، وتكتشف صُورًا للحب تحاول عيش بعضها على الأقلّ. سبّاحة ماهرة تقمع في ذاتها مخاوف المياه رغم موت والدتها فيه. تُقيم مع والدٍ مهموم بتربية النحل، وشقيق يمارس السباحة أيضًا، وشقيقة صغيرة. تعاني إيفا خللاً في إحدى أذنيها تجعلها عاجزة عن السمع. ثم تلتقي مايسترو، له مع والدتها علاقة عاطفية.



اختصارٌ كهذا يؤثّر سلبًا على فيلمٍ يمتلك مقوّمات عديدة تجعله أحد الأفلام الجميلة التي تتناول موضوعًا قاسيًا ومؤلمًا وحيويًا. فالتصوير (ميتيا ليتشن) يُضفي على السياق الدرامي لحظات بديعة من صُور ولقطات وألوانٍ تُغذّي الفيلم بمزيدٍ من بهاء جمالي يخترق الطبيعة إلى الذات رغم انكسارها ووجعها. والتوليف (فْرِيدا إيغّوم ميكايلسن) يستغلّ تلك الجماليات التصويرية كي يصنع متتاليات متسلسلة تُقدِّم ـ خصوصًا في لقطات الصمت المُعبَّر عنها بملامح وجه، أو بعينين سارحتين، أو بحركة ما ـ تفسيرات بصرية جميلة للمدى العميق لكلّ شيء: الحب والحزن والألم والمغامرة والتمزّق وانعدام الأفق وغيرها، بلوغًا إلى ذروة الرغبة في حِدادٍ يُخرج الشابّة إيفا من جحيم مغامراتها ورغباتها.

أما "بجعة الكريستال" (2018، إنتاج مشترك بين بيلاروسيا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية وروسيا) للبيلاروسية داريا زوك، المُشارك في برنامج "شرق الغرب" (عرض دولي أول)، فمختلف تمامًا، وإنْ يُمكن اعتبار رحلة الشابّة إيفْلينا (ألينا ناسيبولّينا) من مينسك إلى بلدة ريفية بعيدة، في زمن ما بعد الاتحاد السوفييتي، نوعًا من تطهّر واغتسال يُنقذانها من مواجع العلاقات المضطربة والمخادعة والمنهارة بسبب أفعال أم وصديق وبلد ومجتمع. هذا كلّه عبر قصّة عادية: تريد إيفْلينا السفر إلى شيكاغو الأميركية لزيارة أحد أهم ملاهي السهر التي يعمل فيها كبار فناني الـ"دي. جي."، هي المهووسة بهذا النوع من العمل الموسيقي. لذا، يُفترض بها تقديم وثائق، بينها مستند رسمي من الجهة التي تعمل لصالحها. ولأنها لا تعمل بشكل منتظم، تزوّر المستند بوضع رقم هاتف غريب، تكتشف لاحقًا، بعد معرفتها بأن السفارة ستتصل بالرقم للتأكّد من المعلومة، أن الرقم المطلوب عائدٌ لعائلة مقيمة في بلدة ريفية بعيدة، تتوجه إليها وتقيم معها بانتظار "الاتصال الهاتفي العجائبي"، وتشارك في التحضيرات الخاصة بعرس الابن الأكبر الذي يعتدي عليها، في مسار تنكشف فيه أحوال بلدٍ مُقيم في هاوية الخراب المتنوّع، أخلاقيًا واقتصاديًا وإنسانيًا ونفسيًا واجتماعيًا.

النمط المعتَمَد في سرد الحكاية لن يخلو من بعض الفُكاهة، وإنْ بهدوء وتبسيط، لشدّة الانهماك بتلك الرحلة التي تنتهي عند فشل كلّ شيء، وعودة إيفْلينا المحمّلة بالتباس الحالة: اكتشاف علاقة صديقها/ حبيبها بأمها دعوة إلى تأمّل مختلف بأحوال الدنيا والناس.
المساهمون