في "مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، تحضر أيضًا أفلامٌ أخفّ ثقلًا دراميًا وأسلس في طرح أسئلة حياتية مختلفة. المسائل المعقّدة بين الفرد وذاته، أو بينه وبين محيطين به، مغلّفةٌ باشتغال يميل إلى ترفيهٍ وضحكٍ وتبسيطٍ شكليّ في مقاربة إنسانية أهدأ، مقابل كثرة البؤس الحياتي المتحوّل إلى ركيزة أساسية لعناوين عديدة.
نموذجان اثنان يُعبّران عن كيفية طرح أزمة ذاتية في قالب مُسلٍّ، من دون الانتقاص من أهمية الأزمة ومشاكلها، ويُشاركان في المسابقة الرسمية للدورة الـ53 (29 يونيو/ حزيران ـ 7 يوليو/ تموز 2018) للمهرجان نفسه (عرض عالميّ أول): "سلّة فلوريانوبوليس" (2018، إنتاج مشترك بين الأرجنتين والبرازيل وفرنسا) للأرجنتينية آنا كاتز، و"أكاذيب مريم" (2018، إنتاج مشترك بين جمهورية الدومينيكان وإسبانيا) للثنائي ناتاليا كابْرال (الدومينيكان) وأوريول استرادا (إسبانيا).
المشترك بينهما كامنٌ في سلاسة المعالجة ووضوح المعاني وبساطة السرد وعمق المآزق التي يسعى المُصابون بها إلى إيجاد منافذ لهم لخلاص مطلوب، أو لعلاج داخلي يُعينهم على الاستمرار في العيش بصلابة أمتن وتحصينٍ أقوى إزاء مطبّات حياتية أخرى ربما يواجهونها لاحقًا. في الأول، يحضر شبانٌ في مقتبل العمر، مع أسئلتهم الأولى في مواجهة الحياة؛ وفي الثاني، تُشكّل مراهقتين اثنتين نواة أساسية للبناء السردي والمناخ الإنساني. للأهل في الأول مكانٌ واسع وعميق، وحيّزٌ مفتوح على مصائب عمر وتحوّلات وتحدّيات؛ وفي الثاني يظهر الأهل إما كمُسبِّب (غير مباشر إجمالاً) لألم وتمزّق تعاني المراهقتان تداعياتهما القاسية، وإما كمُشرف على المسار المُثقل بهمّ وتعبّ، الذي تمرّ به صبيّتان في مقتبل العمر.
للطبيعة الخلاّبة لعاصمة ولاية سانتا كاتارينا في جنوب البرازيل (فلوريانوبوليس) مكانةٌ بارزةٌ في فيلم آنا كاتز. التصوير (غوستافو بيازّي) تمرينٌ للعين والروح على رخاء وسكينة وانجراف إلى متعٍ العيش بهدوء وطمأنينة. جبال وبحر وجزيرة، وممرّات فوق المياه أو بالقرب منها لبلوغ المنازل المشيّدة بين الأشجار، أمورٌ تدعو إلى ترف الكسل أمام شاشة تعكس شيئًا من روحٍ مفقودة في بعض النفوس الآتية إلى تلك البقاع الجغرافية الساحرة، لعلّ الجمال يمنح المرء شفاءً من بشاعة اليومي في مدنٍ مكتظة بخواء وانكسار وتمزّقات.
لكن طبيعة كهذه لن تظهر في "أكاذيب ميريام"، لأن البناء الدرامي معقودٌ على أمكنة مغلقة ومُصوّرة (إزْريل كارديناس) بلقطات قريبة غالبًا. فالحكايات كلّها مرويّة داخل غرف المنازل (إنْ تكن كبيرة أو صغيرة، والنوعان يعكسان شيئًا من اختلافٍ طبقي بين عائلتي المراهِقَتين المقرّبتين إحداهما إلى الأخرى بفعل الصداقة) أو في مسبحٍ خاص أو في ملهى أو مطعم. حتّى أن التصوير الخارجي، وهو قليلٌ أصلاً، يستند إلى اللقطات القريبة أيضًا، كأن يكون الإطار كلّه للقطة ما معقودٌ على شخصيات الفيلم أثناء تنقّلهم بالسيارة.
والمشترك الآخر بين الفيلمين كامنٌ في أن العائلة ومآزقها منبعٌ للحكايات والتفاصيل، ودافعٌ إلى تجوّل في طبيعة خلاّبة تدعو إلى تمضية إجازة ستكون أشبه باغتسال يُجدِّد أحوال الوالدين لوكريسيا وبيدرو، المنفصلين أحدهما عن الآخر، وولديهما المُراهقين جوليان وفلورنسيا (سلّة فلوريانوبوليس)؛ أو دافعٌ إلى احتيال وخديعة تمارسهما ميريام تجنّبًا لمزيدٍ من المآزق، إذْ إن والديها مطلّقان، ووالدة صديقتها تُقيم علاقات عديدة خارج الإطار الزوجي، والتراكمات السلبية جرّاء صدامٍ قديم بين عائلتي والدي ميريام تبثّ سمومًا خفيّة تحول دون مصالحة جدّية مع الذات (أكاذيب ميريام).
وإذْ يُظهر النص السينمائي لـ"سلّة فلوريانوبوليس" (آنا ودانيال كاتز) آثار تربية اجتماعية يحاول الوالدان التحرّر منها بصعوبة إزاء "تمرّد" معتدل لولديهما، إلّا أن ثقل التربية الاجتماعية الجماعية حاضرٌ بقوّة في سلوك ميريام، التي تخشى الاعتراف بأن "صديقها" (المتعرّفة إليه عبر "الإنترنت") غير أجنبي (فرنسي)، كما يوحي اسمه (جان لوي). غير أن الفيلمين لن يسعيا إلى تحليل سوسيولوجي، بقدر ما يرويان وقائع يومية مستلّة من حقائق العيش والثقافة والتربية. فالأهم، في الفيلمين، منبثقٌ من جمالية السرد المبسّط لحكايات مليئة بقسوة الاجتماع وقواعده، من دون إسرافٍ كبيرٍ في سجال أو انتقاد، بل ببراعة جمالية في التعبير عن انفعالات موءُودة أو رغبات محطّمة أو تطلّعات مبتورة.
هذا غير محصور في شبانٍ يتوقون إلى عيشٍ مختلف عن أهلٍ وأجداد. فوالدا جوليان وفلورنسيا، اللذان يستمرّان في تواصل ما بينهما كصديقين بعد الانفصال، يمتلكان ـ هما أيضًا ـ انفعالات ورغبات وخصوصيات وحميمية، يحاول كلّ واحد منهما أن يلبّيها في رحلة الإجازة تلك، وإنْ يحدث هذا بشكل عابر ومؤقّت. تمامًا كما هو حال والدي ميريام أيضًا.